الأحد، 14 أغسطس 2011

"النجف الأشرف" تلتقي أستاذ الحرف العربي الخطاط جاسم النجفي



لقاءات
عندما تتكلم معه يشعرك بالخجل لتواضعه ودماثة خلقه في حين انك متيقن من قربك لعلم راسخ رسوخ حبه لمدينته التي ابدلها بعشرات العواصم التي قدمت له عروضها ومغرياتها..وحين التمسنا منه اجراء لقاء لم يبخل علينا بوقته الثمين ولم يتذمر لتعثره عدّة مرات، مرة بسبب انقطاع الكهرباء واخرى لانشغاله المتواصل او ربما دعوة من مكان ما .. لانه ذلك الرجل الذي يرى ان العمل الجميل والإتقان والدقة هي عامل مشترك لجميع الفنون لانها تصب في مجرى واحد ..انه جاسم النجفي ..
الخط العربي فن بديع من الفنون الجميلة، وهو على أشكال متعددة تزيد على الخمسة منها النسخ ، والرقعة، والثلث، والفارسي، والديوانى . ولا توجد أمة في التاريخ لعب الخط الجميل في حياتها دوراً هاماً مثل الأمة العربية والإسلامية .. فأينما أدرت عينيك في الآثار الإسلامية القديمة فسوف تجد الكلمات المكتوبة بخط جميل وزخرفة إسلامية بديعة .. تملأ المساجد والمدارس و القصور، فعلى الجدران والسقوف آيات قرآنية وشعارات إسلامية مكتوبة بخط جميل تتناسب مع المكان والغرض الذي يستعمل من أجله . وعلى المعلقات والقناديل الضوئية والأواني الفخارية والنحاسية والبرونزية وعلى الصناديق والأبواب الخشبية والمقابض النحاسية .. وعلى العملات الذهبية وآلات الجراحة والأسلحة بأنواعها من دروع وسيوف وسهام ورماح .. بل أن المسلمين عندما استعملوا البندقية والمسدس والمدفع لأول مرة لم يستغنوا عن تزيينها بآيات من القرآن من باب التبرك والدعاء بالنصر أولاً ثم للناحية الزخرفية والجمالية ثانياً ، وقد أبدع الخطاطون المسلمون في الخط العربي ووجدوا فيه الوعاء الذي افرغوا فيه كل طاقتهم الفنية ..فبرز في هذا المجال العديد من اساتذة هذا الفن وقد كان لمجلة النجف الاشرف اليوم لقاءا مع احد هؤلاء وهو الخطاط جاسم حمود حسين النجفي الشهير بـ (جاسم النجفي) وكان هذا الحوار :
النجف الاشرف: انصرف الناس منذ القدم الى تعلم فن الخط ودراسته فبرز فيه اناس قديرون كشفوا كنوزه الفنية واوضحوا مقاييسه ونسبه ، ولما كانوا على درجات متباينة من الملكة في ضبط الخطوط العربية، فقد خلقت هذه الحالة التباين والتفاوت في قدراتهم..لذا كيف يستطيع المتلقي التمييز بين الغث والسمين وسط هذا الكم الهائل من الخطاطين؟
جاسم النجفي: هذه المسألة تتعلّق بالثقافة والإطلاع الواسع فكلّما كانت المتابعة في هذا الموضوع كان المتلقي أكثر خبرة والخبرة تاتي من التعرف على مختلف الاعمال الفنية عن طريق السفر والزيارات وأقصد زيارات المتاحف والرموز الموجودة داخل وخارج العراق كتركيا وسوريا ومصر ودول المغرب العربي وغيرها اضافةً إلى وجود المتاحف الأوربية الغنية بتراثنا الخطي وعندما كنت خارج العراق كنت أفاجأ عندما يعطونني عربوناً ممتازاً ومغرياً وأقول لهم ما المطلوب مني فيقولون لي أي قصاصة ورق من تلك التي ترميها، أحسبها علينا لقاء مبلغ مغري فتصور اهتمامهم.

النجف الاشــــــــــــــرف: من اين يستمد الخطاط النجفي مواضيع لوحاته ؟ وكيف يستطيع ان ياتي بجديد وينفرد عن اقرانه باختيار مواضيع لوحاته ؟ خصوصا ان الخطاط المتميز يتمتع برغبة الميل الى الاستحداث والابتكار؟
جاسم النجفي: من وجود العتبات المقدسة وما تحمله من معالم غنية بالتراث الهائل المليء بالأعمال الخطية والزخرفية والتي يحسدنا كل الفنانين في العالم عليها أما الحداثة والإبتكار فتطرقت إليه منذ بدايتي قبل ثلاثين عامأً ونيف وهذا موجود وموثق في الصحف منذ تلك الفترة وقد كانت لي بمثابة قفزة كبيرة نحو التحضر والتألق حتى أختيرت لوحاتي مع لوحات الفنانين الكبار الرواد أمثال جواد سليم وفائق حسن ومحمد علي شاكر وشاكر حسن آل سعيد ومحمد غني حكمت.
النجف الاشــــــــــــــرف: التطور الواسع للخطوط العربية تشير الى قدرة الخطاطين لمواكبة روح العصر الذي عاشوا فيه حيث تشير المصادر التاريخية ان الخطوط اللينة تولدت من الخط الكوفي وان الخطاطين العرب الاوائل ينسب اليهم اختراع هندسة الخطوط وايجاد انواع جديدة في الخط العربي كالطومار وخفيف الثلث وثقيل الثلث وغبار الحلبة التي اندثر معظمها . كما ان الخطاطين الاتراك اوجدوا الخطوط الهمايونية (الديواني والجلي الديواني ) واخترعوا كذالك الطغراء والسياقة كما ينسب الى الايرانين اختراع خط النستعليق كل هذه التطورات عاشت عصرها وجعلت من الخط العربي ابهى جمالا واحلى حلة.. كيف يرى جاسم النجفي هذا الامر ؟ وهل هو مع الاحتفاض بالموروث من اساليب الخط العربي ام مع ضرورة ايجاد انماط اخرى من الخطوط العربية لتواكب العصر ..خصوصا ان الحرف اليوم هو اداة من ادوات الاعلام ؟
جاسم النجفي: هذا هو أمر طبيعي فالإسلام والقرآن الكريم دخل قلوب البشر من كل الأصناف فالفنان المسلم استمد ابداعه بكل قوة وجرأة وفجّر طاقات فنية كبيرة فالفتوحات الإسلامية امتدت مسافات كبيرة واصبح الفن الإسلامي موحداً لبني البشر والتأريخ الإسلامي الواسع كلما تصفحنا ملفاته ترى أفواجاً من الفنانين الكبار سواءً كانوا من الهنود او من الصينيين أو الإيرانيين أو الأتراك إضافةً لدول عربية كدول المغرب العربي والأندلس وكذلك العهد الفاطمي والسلجوقي وخارطة الإسلام امتدت إلى جميع أنحاء المعمورة والإبتكارات والخطوط التي تفضلتم بذكرها هي عبارة عن ولادة طبيعية لهذه البيئة التي ساعدت على استيعاب الطاقات والإبتكارات وخصوصاً في تركيا كما نقرأ عن السلاطين الذين كان معضمهم من الخطاطين وكانوا يرعون الخط والخطاطين بأنفسهم حتى كان الخطاط الجيد والمزخرف الجيّد يعيش في قصور السلاطين وكانوا يزوجون الخطاطين والخطاطات ولدينا مثلاً مشرّفاً فالخطاط الكبير محمود جلال الدين تم زواجه من الخطاطة الكبيرة أسماء عبرت وخطوطهما معروفة في الكتاب الشهير (مصور الخط العربي) فالإهتمام الواسع من قبل رأس السلطة والمعنيين يجعل حالة الإبداع والإبتكار والتواصل مسألة طبيعية عكس ما موجود لدينا حالياً وما نراه من إهمال السلطات فيجعل الإساءة والتدني في الذوق والكتابة السيئة والألوان السيئة على الجدران ومداخل المدن والمحلات تدل على أهمال كبير من قبل الجميع المسؤولين والناس العاديين فالجميع مشترك بهذه الإساءة. حتى وصلنا الى مرحلة متدنية أكثر وهي وجود أخطاء إملائية وإهمال في الذوق في حياتنا والعمل السيء لمعامل الكاشي الكربلائي وعدم وجود ورشات فنية محترفة للمينيا والذهب وغير ذلك.
النجف الاشـــــــــــــرف : كيف دخل جاسم النجفي عالم الخط؟ وماهي اهم مدارس الخط العربي التي تأثر بها؟ وهل تاثر النجفي بخطاط معين ؟
جاسم النجفي : عند طفولتي وأنا أنظر إلى عناوين الكتب والخطوط في العتبات المقدسة التي هي مصدر إلهامي وحبي وتأثري الكبير بها عثرت بالصدفة على كتاب (قواعد الخط العربي) الذي كان بالنسبة لي الإنطلاقة.. حتى وصلت إلى مرحلة عندما يعاب على خطي يقولون: (ان جاسم النجفي ماهو الا نسخة طبق الأصل من هاشم البغدادي) وفي الحقيقة إن هذا شرف كبير لي لأنه أرقى خطاط من خطاطي الوطن العربي وكراسته من أرقى الكراسات على مستوى العراق والعالم العربي وقد قال عنه الخطاط الكبير حامد الآمدي ـ آخر العمالقة الأتراك ـ بكلمته الشهيرة : ظهر الخط في بغداد ومات فيها على يد هاشم.
النجف الأشرف: ماهي اجمل هدية قدمت لك ..؟
جاسم النجفي: عند بداية موهبتي المتواضعة والمتمثلة في النهج الأصيل لفنون الخط العربي كانت مفاجأة كبيرة لي في الوسط العلمي والفني في مدينة النجف الأشرف حيث العلماء ورجال الدين ووجود المراقد المقدّسة والتي تستقطب القدرات الفنية الكبيرة التي تعمل في مجال الذهب والمينيا والقاشاني وغيرها من المواد النفيسة الفنية وكان أكثر المهتمين بهذا الشأن هم العثمانيين والإيرانيين ، الهنود ، الباكستانيين وغيرهم حيث أثرت اعجابهم وقدّموا لي هدية تكريمية وهي عبارة عن مساطر خشبية مختلفة وماسحات وأقلام رصاص وكانت هذه الهدية تعتبر حدثاً تاريخياً في حياتي لذا فإني اعتبر ان قلم الرصاص هو أجمل هدية قدمت لي، ولحد الآن أنا احترم وأقدّس قلم الرصاص واعتبره رمزاً كبيراً رافقني في مشواري مع عالم الخط.
النجف الاشــــــــــــــرف: متى اقمت اول معرض شخصي وأين؟ وهل حصلت على جوائز معينة في هذه المعارض؟
جاسم النجفي: في سبعينيات القرن الماضي قمت بمعرضين شخصيين الأول عام 1977 والثاني عام 1979 وكانت هذه التجربة غير مألوفة..لانها كانت أول مرة في تأريخ النجف يقوم شاب خطاط بعمل معرض متكامل وعلى مستوى أثار إعجاب الجميع وكان هذا المعرض منافساً خطيراً للأخوة الفنانين التشكيليين في المحافظة حيث إستقطب الجماهير الغفيرة آنذاك ولدي سجل احتفظ به بما كتب عني ومن ضمن الذين كتبوا عني الدكتور مصطفى جمال الدين رحمه الله وفي وقتها أشاد بي كبار المهتمين أمثال العلامة الخطيب السيد جواد شبّر الذي امتدحني في بيتين أتذكرهما:
يقول الناس في خط ابن مقلــــــة
بديعٌ مـــــــــا رأى الـــــراؤون مثله
وهذا جاسم الخطاط فينـــــــــــــا
بحسن خطّه يرينا الحسن كلّه
وكذلك السيد رؤوف جمال الدين والقائمة تطول ولا يسع المجال لذكرهم. اما اهم الجوائز التي حصلت عليها فباختصار حصلت على ما يقارب (12) جائزة دولية وعالمية إضافة إلى اعتباري عضواً دائماً في اللجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي في اسطنبول، ووسامين ذهبيين، وتزويدي بهوية خاصة وهي (اعتباري من رواد الخط العربي) وهوية شرف من اتحاد المؤرخين العرب .
النجف الاشرف: اي الخطوط اقرب الى نفس الخطاط جاسم النجفي من دون بقية الخطوط العربية؟
جاسم النجفي: خط الثلث لأنه أصعب وأجمل وله القدرة الفائقة للتكيف والطواعية خصوصاً في الواجهات المهمة وعناوين الكتب الجميلة وخط التعليق هو الأقرب الآخر حتى قال عني كبار خطاطين إيران: لأول مرة نرى خطاطاً عربياً يجيد خط التعليق وبالمناسبة كثير من الذين لا يعرفونني يتوقعون بأني إيراني أو لي جذور إيرانية لشدة التقارب بالذوق الذي يحملونه... وهذا الأمر ليس بغريب لأن بيئتي التي عشت فيها في النجف كان لها تأثيرا كبيرا بما يحمله الكبار من الذوق العالي والفن الرفيع أمثال السيد مرتضى النجفي والآن هو في كرمانشاه والسيد مهدي القاضي والذي كانت آثاره منتشرة في الجوامع والمعالم الدينية في مدينتنا وبرأي الخاص ما المانع من أن تتأثر بأي شيء جميل ومهما تكن صفة هذا الشخص فأنا ومنذ بداية حياتي تأثرت كثيراً بالعلماء والشعراء الكبار كذلك قرأت عند المخترعين والموهوبين حتى من غير أديان أو من غير ملل وتأثرت كثيراً بسلوكهم وبإنجازاتهم فأنا إنساني أحب الجميع ولدي علاقات واسعة مع الجميع على سبيل المثال لدي علاقات واسعة مع فنانين من الهند والباكستان وإيران وأميركا وإيرانيين وبنكلاديشيين أما الدول العربية فإنهم كلّهم أصدقاء لي وأعتبرهم من ضمن العائلة القريبة عليّ. وعند مشاركاتي الدولية الواسعة اصبحت قريباً جداً إلى الكثير من فناني الشعوب المختلفة واتذكرهم ويتذكروني بالخير لأن الإبداع لا يفرق بين الشعوب إنما يوحدهم .
النجف الاشرف: بالتاكيد ان للخطاط النجفي العديد من الا عمال التي يعتز بها ؟ لكن ماهي اقرب هذه الاعمال الى نفسه ؟
جاسم النجفي: خطوطي في جامع السيد عبد الأعلى السبزواري ومسجد الهندي ومسجد الجواد ولي خطوط كثيرة في جامع الحاج عطية الجبوري في حي الأمير وتتوّج أعمالي في الحضرة العلوية المقدسة والخطوط في الطوق الكبير لنصب ثورة العشرين في وسط مدينة النجف الاشرف من الداخل والخارج وبالخط الكوفي.
النجف الاشــــــــــــــــــــــرف: يعمل بعض الخطاطين على المزاوجة بين الخط والرسم بطرق مبتكرة ؟ هل تجد ان الخطاط الجيد يجب ان يكون رساما
جاسم النجفي: الخط والرسم وجهان لعملة واحدة وهناك ذوق واحد مشترك بينهما هو الإبداع وحسن الأداء وربما يكون الرسام متألقاً ولديه ذوق عالي لا يمكن مقارنته بخطاط لا يمتلك هذه المواصفات وبالعكس ربما يكون الخطاط متألقاً ويمتلك مقومات العمل الراقي والمقارنة غير صحيحة لأن الإبداع دائماً هو الأساس.
النجف الاشـــــــــــــــــــــــــرف: ماهي احلام جاسم النجفي وطموحاته؟ وهل وصل النجفي الى مرحلة القناعة ؟
جاسم النجفي: حلمي الكبير هو التطور والتألق والإبداع ومن يعمل لمرحلة القناعة فإنه فاشل لأني أرى نفسي بعد هذا العمر الفني الطويل ما زلت في بداية الطريق الصحيح وإني أتأسف دائماً وأقول لنفسي لماذا لم أكن أفضل مما أنا عليه الآن.
النجف الاشرف: اين يضع جاسم النجفي نفسه في سلم الخطاطين ؟
جاسم النجفي :
للسابقين ... إبنهم
وللمعاصرين ... أخوهم
وللمبتدئين ... خادمهم
النجف الاشــــــــرف: من الذي يجمل الاخر .الزخرفة ام الخط؟
جاسم النجفي: الاثنان معاً..
النجف الاشرف: هل من كلمة أخيرة :
جاسم النجفي : دعوت وسأظل أدعو إلى التطوير، تطوير الكوادر العاملة وإرسالهم إلى الدول المعنية وإنشاء ورش للمينيا والمقرمة والقاشاني بأشكاله وأنواعه. لأن الأعمال المرتبطة بفنون الخط تحتاج إلى تنفيذ جيد ومواد جيدة وهذا ما نعانيه الآن في عتباتنا المقدسة وفي جوامعنا التي يتم تجديدها الآن.. كما حدث في آخر أعمالي في مسجد الجواهري فإن الخطوط التي كتبتها لم يكن تنفيذها كما ينبغي بسبب الرداءة في التنفيذ وله اسباب عديدة ومبررات يجب على المهتمين بالأعمار والتجديد الإنتباه لهذا الموضوع. كما ان المطبوعات التي تصدر في هذه الايام وللأسف سواء كانت صحفاً أو مجلات ففيها الكثير من الأخطاء النحوية والإخراج السيء في بعض الأحيان وقد نبهّت مراراً وتكراراً الجهات المعنية وحذرتهم من هذه السلبيات التي لا تليق بسمعة مدينتنا الفاضلة ومن العيب علينا أن تنتشر فينا هذه العيوب والأخطاء ونحن نعيش في مدينة العلم والأدب مدينة أمير البلاغة والفصاحة الإمام علي ابن ابي طالبA ومن واجبنا ً أن لا نعطي أي فرصة للتبرير لئلا تنتشر الرداءة ونصل بلغتنا لغة القرآن الكريم إلى حد الإساءة .

أرشيف المدونة

المسجد النبوي الشريف - جولة إفتراضية ثلاثية الأبعاد

About This Blog


Labels