لم يفقد شهر رمضان مكانته وعاداته عند الشعب التركي رغم مظاهر التغريب التي سادت نمط حياته اليومية على مدار ثمانية عقود من النظام الجمهوري العلماني اذ حافظ الاتراك برغم ميولهم نحو الغرب على عادات رمضانية أصيلة توارثوها عن اسلافهم العثمانيين.
ويستعد الاتراك للشهر الفضيل الذي يسمى هنا بسلطان شهور السنة بحماس كبير لاسيما الجوامع التي تزخر بالمصلين بشكل فوق العادة وقراءة القرآن وعقد حلقات الذكر علاوة على التواصل الاجتماعي بين المصلين.
وتأخذ مظاهر الاحتفاء برمضان شكلا اخر في الجوامع اذ تتميز في هذا الشهر دون سائر الشهور بتزيين ماذنها بالانوار والعبارات الدينية المعلقة وذلك مايطلق عليه "المحيا" وهو تقليد عثماني مازال مستمرا منذ ما يقارب اربعة قرون.
و(المحيا) عبارة عن مد اسلاك بين مئذنتي الجامع وكتابة رسائل ترحيب بشهر رمضان وعبارات ذات مدلولات دينية واجتماعية واحيانا سياسية لتضاء على مدار هذا الشهر الكريم وقت اقامة اذان المغرب وحتى انتهاء صلاة الفجر.
ويبدأ تعليق المحيا مع حلول رمضان بين ماذن الجوامع بعد فترة تحضير تبدأ من منتصف شهر شعبان وتتضمن مع بداية الشهر الفضيل عبارات من قبيل (مرحبا يا شهر رمضان) و (صوموا تصحوا) و (اهلا بك يا شهر رمضان) و (سلطان الشهور الاحد عشر) و (الزكاة تزيد الاموال).
وتحل في أواخر رمضان عبارات أخرى مثل (لا اله الا الله) و (الشفاعة يارسول الله) و(وداعا يا شهر رمضان) لكنها تكون مزخرفة بأشكال للهلال اوالنجوم او مزينة بصور للجوامع.
وبهذا الصدد يقول الدكتور علي كرباجلي أستاذ التاريخ العثماني في كلية اللغة والتاريخ في جامعة انقرة في حديث لوكالة الانباء الكويتية (كونا) ان "الاتراك تفردوا من بين سائر شعوب العالم الاسلامي بفن المحيا الذي ظهر لاول مرة في مدينة اسطنبول عاصمة السلاطين العثمانيين وتحول هذا الفن الى تقليد صمد امام عوامل الانقراض على امد 400 عام ومازال".
ويضيف الدكتور كرباجلي ان "اسطنبول التي كانت تسمى ب(الاستانة) في العهد العثماني كانت تحتفل بشهر رمضان في اجواء رائعة تعكس الوان الثقافات المتعددة للامبراطورية العثمانية وتتداخل فيها الأنغام والأدب الشعبي والمآدب والعروض الترفيهية والفنية وجاء فن المحيا ليرمز لهذه الأجواء الروحانية ويرفع حماس القلوب والنفوس الى السماء".
ويوضح ان "اكثر الروايات الشائعة حول اول ظهور لهذه الفن تفيد ان الحافظ (الكوفي) احد اشهر الخطاطين في فترة حكم السلطان العثماني احمد الاول واحد مؤذني جامع الفاتح باسطنبول قدم لوحة فنية جميلة الى السلطان الذي اعجب بها بشدة وأمر الكوفي باضاءة اللوحة بالقناديل الزيتية وتعليقها بين مئذنتي الجامع".
وبحسب المصادر التاريخية فان هذه الحادثة يعود تاريخها الى الفترة بين عامي 1616 و1617 وانه على اثر اعجاب السلطان بهذه اللوحة تحولت مهنة الخطاط الى تقليد فني وحرفة بعدما أصدر احمد الاول فرمانا امر فيه بتعليق المحيا على مآذن كل الجوامع في السلطنة من كل شهر رمضان.
ويقول الدكتور كرباجلي ان "كلمة محيا هي كلمة فارسية في الاصل وهي تتحدر من كلمة (ماهية) التي تعني الشهري كما ان كلمة (ماح) تعني في اللغة الفارسية القمر وفي اللغة العثمانية القديمة نور الوجه" ويدلل على ذلك بأن القاموس التركي لمؤلفه الكاتب العثماني شمس الدين سامي احتوى هذا اللفظ ومعانيه.
وتتحدث وثائق محفوظة في مكتبة الأرشيف العثماني عن ان لوحات المحيا قد علقت على مآذن جامع (ايا صوفيا) لاول مرة عام 1724 وان عبداللطيف افندي كبير حرفيي المحيا هو من ادخل التحسينات على هذه المهنة وأضفى عليها طابعا فنيا حيث نجح في صنع محيا يتحرك من اليمين الى اليسار وعلقه بين مئذنتي جامع السليمانية مستعملا ثلاثة حبال وبعد وفاته عام 1787 حل اولاده محله واستمرت هذه المهنة بالتناقل عبر الاجيال.
وجاء ذكر اسماء اشهر حرفيي مهنة المحيا في كتاب (الحياة القديمة في اسطنبول) من ابرز هذه الاسماء علي باي واحمد راسم والخطاط الكبير جلال برهان فلك.
ويقول كرباجلي ان مهنة المحيا احتلت مكانة مهمة في الثقافة التركية كما نالت اعجاب سكان الامبراطورية العثمانية والزوار الاجانب على حد سواء ويشير الى عبارة كان الاجانب يتداولونها فيما بينهم عند الحديث عن المحيا ونصها هي ان "الاتراك نجحوا بانزال النجوم من السماء واستعمالها للكتابة بين المآذن".
ويشير الى قيام مدينة اسطنبول بوصفها عاصمة الثقافة الاوروبية لعام 2010 باعداد كتاب شامل يشرح المسيرة التي مرت بها مهنة وفن المحيا ويحمل في طياته اكثر من 100 صورة لهذه المهنة وفنها من عهود الحكم العثماني وحتى الوقت الحاضر.
ومن جانبه يقول المحياجي وهو الذي يعمل في مهنة صنع المحيا باصلان اوغور ل(كونا) ان "امتهان هذه الحرفة تتطلب مهارة كبيرة خصوصا في العهد العثماني حينما كانت الاحرف العربية مستخدمة في الكتابة قبل ان تلغى بعد قيام الجمهورية لتحل محلها الاحرف اللاتينية".
ويشرح اوغور الذي ورث مهنته من ابيه كيفية صنع المحيا بالقول انها "تبدأ برسم العبارة بشكل فني على قطعة من القماش او الورق المقوى مليئة بالمربعات الصغيرة ويحسب العقد وفقا للخطوط التي تتقاطع مع كل مربع وثم توزع المصابيح على الاسلاك الحديدية تبعا لمكانها على اللوحة وهكذا تتكون العبارة التي ستعلق بين مئذنتي الجامع".
ويضيف ان "اول شروط هذا الفن هي ان يكون للجامع مئذنتان على الاقل حتى يعلق المحيا وان يتم ربط اطراف لوحة المحيا بحبال او اسلاك مع المئذنتين" موضحا انه كانت تستعمل قناديل الزيت والشمع لاضاءة هذه اللوحة طوال ايام رمضان الكريم على الرغم من الرياح والامطار لكن بعد ربط الجوامع بالكهرباء بدأت عبارات المحيا تضاء بالمصابيح الكهربائية الملونة.
ويؤكد المحياجي اوغور ان حرفيي المحيا كانوا يتنافسون في العهود السابقة على تغيير عبارات المحيا بشكل متكرر اذ كانوا يبدلون العبارات الدينية يوميا وفي بعض الاحيان بعد انتهاء صلاة التراويح ماكان يضفي لونا حماسيا على ليالي رمضان القديمة.
ورغم ان المحيا عادة دينية فانها تحولت في فترات من عهد الجمهورية الى وسيلة لايصال الرسائل السياسية للدولة الى عامة الشعب اذ علقت عبارات بين المآذن تمجد لمؤسس النظام العلماني كمال مصطفى اتاتورك وخليفته الرئيس عصمت انونو كما علقت لوحات محيا تدعو للتكافل الاجتماعي من قبيل (لاتنسى التبرع للهلال الاحمر) و(الفاتحة على روح الشهداء) و(اكفل اليتيم).
ومهما كان نوع او طبيعة العبارات المعلقة فان المحيا ظل عادة اصيلة تحكي فصلا من العادات الرمضانية المتجذرة لدى الاتراك وطرائقهم في العبادات برغم التحولات الثقافية التي مرت بها بلادهم.
المصدر: الوكالات