الخطوط العربية الأولى: نشأتها وتطورها
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي الذي بعثه الله رحمة للعالمين وجعل من أمته الأمية خير أمة أخرجت للناس، كانت في جاهلية جهلاء، فأنزل الله على رسوله: «اقرأ». فأصبحت بها حين قرأت وكتبت معلمة الأجيال، وحاملة راية الفكر والعلم عن بني البشر قروناً.
وفي هذا المقال نسير مع الخط العربي، هذا الحرف المقدس، الذي نزل به القرآن الكريم، وجعل النطق به عبادة لله، فلا يقبل الله صلاة بغيره. وجعل فيه سر إعجازه وبيانه، فزاد هذا الحرف جمالاً إلى خصوصياته، ما جعل الخطاطين عبر العصور، وفي سائر البلاد التي يوجد فيها فنانون وخطاطون، يتبارون في رسم حروفه فيطرزونها وينمقونها، ويجعلون من هذا الحرف الصامت حرفاً ينطق بحركة الحيوية، ليعبر عن جماله في تلك الأشكال والحركات، التي جعلته يتكلم من غير لسان، وتفوح رائحته العطرة من خلال متابعة الكلمة الواحدة حرفاً حرفاً.
والخط العربي أكثر إبداعات الحضارة العربية أهمية، وأكثرها شمولاً لكل مظاهرها؛ لارتباطه بكل إنجازات هذه الحضارة، وبكل ما أبدعه العرب من فنون وعلوم وآداب، إذ لم تكن هذه الحضارة ممكنة من دون كتابة عربية تدون الإنتاج، ومن دون خط عربي مرن وسلس قادر على حفظ نتاج الفكر والعلم، وتدوين ذلك بيسر وسهولة، لهذا تكثف الإبداع في الخط العربي، وأعطى أصالة هذه الحضارة، فقد أُخذت الخطوط القديمة، وأُعيد النظر فيها، ووضعت لها القواعد والضوابط التي مكنت من عملية انتقال الحضارة وشيوعها، وانتقال مبادئها، وأسسها إلى الآخرين.
لهذا فقد حفظ الخط كل ما أُنتج، وزين كل ما شُيد، ولذلك عُد الفن الأكثر صلة بما أبدعه العرب من إنتاج متنوع، لأنه الإنتاج الأول الذي ازدهر مع هذه الحضارة، وقدم لإبداعها التجسيد المادي على الورق، والجدران، والأواني، وقد تمكن الخطاط العربي من أن يبدل جوهرياً الكتابات السابقة له، وذلك لكي لا تضيع الكلمات وتتداخل، ولكي يصبح الخط أكثر رشاقةً وجمالاً وانضباطاً، ولهذا فهو الفن الوحيد الذي ازدهر مع الحضارة العربية، وهو الوسيلة الرئيسة للإبداع الفني، إذ إن الخطاط العربي قد تمرّد على الأشكال التقليدية للخطوط السابقة، وجعل الخطوط العربية لها سماتها المميزة، وأضاف إليها ما يُعتبر ثورة في مجال تطور الكتابة، لهذا نستطيع القول إن الخط هو الإنتاج العربي الذي استطاع الفنان فيه أن يحقق تطوراً شاملاً. وهكذا حقق الخطاط العربي أعظم إبداعات الحضارة أهمية.
واختلف المؤرخون والعلماء حول نشأة الخط العربي، ففريق يرى أن نشأته كانت إلهية محضة، إذ إن الله عز وجل قد أوحى إلى آدم بطريقة الكتابات كلها ثم كتب بها آدم كل الكتب، وبعد زوال طوفان نوح عليه السلام أصاب كل قوم كتابهم فكان من نصيب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي، ويطلق علماء الخط على هذا الاتجاه «نظرية التوقيف». بينما يذهب فريق آخر إلى أن الخط العربي اشتق من الخط المسند الذي يعرف باسم «الخط الحميري أو الجنوبي»، الى درجة أنهم أطلقوا على هذا الخط اسم «الجزم» لأنه جُزم أو اقتطع من الخط الحميري، وهذا هو رأي ابن خلدون الذي يقول: «وقد كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف، وهو المسمى بالخط الحميري. وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة إلى المنذر نسباء التبابعة في العصبية، والمجددين لملك العرب بأرض العراق. ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة، لقصور ما بين الدولتين. فكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش».
أما الفريق الثالث فيرجح أن الخط العربي ما هو إلا نتاج تطور عن الخط النبطي، المتحدّر من الخط الآرامي، وهذا ما تؤكده النقوش التي ترجع إلى ما قبل الإسلام والقرن الهجري الأول، وهذه النقوش نجدها في منطقة «أم الجمال» شرق الأردن، ويعود تاريخها إلى 250م، وهناك نقش وجد في منطقة حوران إحدى ديار الأنباط يعود تاريخه إلى 328م، وهو عبارة عن شاهدة قبر امرئ القيس الملك والشاعر الشهير، ثم انتقل الخط من حوران إلى الأنبار والحيرة، وقام الأنباط بإجراء بعض التعديلات على الخط الآرامي، الذي نسب إليهم فعرف بالخط النبطي، ثم كان لهم الفضل في نقله إلى العرب في الحجاز؛ نظراً إلى علاقاتهم التجارية الوثيقة مع الجزيرة العربية.
وهناك نظرية رابعة حديثة كشف عنها النقاب الخطاط والباحث في تاريخ الخط العربي الشهير يوسف ذنون دحض فيها الآراء الثلاثة السابقة، وذهب إلى أن الكتابة الحضرية الخاصة بمملكة الحضر العربية تشكلت في الجزيرة الفراتية، وتعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، ومنها انتشرت كتابتها ولم تقتصر على الحضر، وتطورت عنها الآرامية. ويؤيد اتجاهه بإجراء مقارنات بين أشكال الحروف الحضرية والكتابة الآرامية، والحروف العربية المعاصرة، ليدلل على اشتراك هذه الكتابة في الخصائص العامة مع الكتابات المعاصرة المتطورة عن الآرامية، ليذهب إلى جزم هذه الكتابة عن الكتابة الحضرية في رحلة الكتابة العربية المبكرة إلى بلاد الشام، وتأثيراتها المتبادلة بعد ذلك في أعراب الجزيرة العربية.
وبالنسبة إلي أميل إلى الرأي الذي يقول إن التدوين يرجع إلى أبي البشرية آدم استشهاداً بقوله تعالى: «وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين» (البقرة: الآية 31) وقوله تعالى مخاطباً سيدنا محمد… «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم» (العلق: الآيات1 - 5).
نشأة أنواع الخطوط
لم يتفق المؤرخون وعلماء اللغة العربية على تحديد جذور الكتابة العربية، ولكن ذهب الأغلب إلى أن أصل الخط أخذ من الخط النبطي المأخوذ من الخط الآرامي، فقد قلد العرب النبط في حذف الألف من بين بعض الأسماء والأعلام واحتفظوا بعدد الحروف النبطية نفسه، وتركيبها الأبجدي نفسه، ثم تطور الخط عبر مدرستين: أولاهما الكوفية، والثانية الحجازية. أما الخط الكوفي فكان يميل إلى اليباس مع القسوة، بينما يمتاز الحجازي بليونته وسهولة كتابته. ويمكن اعتبار ظاهرة جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة عثمان بن عفان بالخط الكوفي حادثة ذات أهمية ممزوجة للدلالة من حيث نشوء ظاهرة الكتاب أولاً، ومن حيث نشوء ظاهرة الخط الأسلوبي اللين ثانياً، وكان هذا الخط غير منقّط، وغيرمُشكّل، ولم تكن له علامات لبدايات السور ونهاياتها، ولا أرقام للآيات الكريمة.
وكان لا بد أن يتطور هذا الخط إثر انطلاق ظاهرة الاهتمام المتزايد بتدوين القرآن الكريم، الأمر الذي منح الخطاطين فرصة ذهبية لتنويع طرق الكتابة وإغنائها، ما جعل الخط أسلوباً، ومع انتشار الحضارة العربية الإسلامية في بلاد عدة، تنوعت الصيغ في الخط العربي، فمر بمراحل عدّة كوضع النقاط على الحروف أولاً، ووضع التشكيل الخفيف والمصطلحات الضبطية، ثم تطور الخط وتشعبت أنواعه بعد ذلك على يد خطاطي العصر الأموي، وأولهم قطبة المحرر (المتوفي عام 154هـ) الذي استخرج الأقلام الأربعة: الطومار والجليل والثلث والنصف، واشتق بعضها من بعض، وكان في عصره أكتب الناس وأعلمهم بقواعد الخط العربي، ثم انتقل من التدوين إلى الزخرفة من خلال إدخال التزيينات والذهب في الآيات القرآنية. وفي العصر العباسي ظهر ابن مقلة (272 - 328هـ) الوزير المعروف الذي كان خطه مضرب الأمثال في البهاء والجمال، فجوّد الخط ووضع موازين الحروف بأبعاد هندسية حتى وصل هذا الفن إلى مرتبة لا تضاهى. واستمر تطور الخط ووضع القواعد له حتى العصر العثماني على يد مصطفى الراقم (1758 - 1826) وشقيقه إسماعيل الزهدي، اللذين سار على نهجهما بقية الخطاطين العثمانيين.
ويظهر الخط العربي بأروع صوره في الفن العثماني، فقد نضجت صوره وأشكاله، وسار به الخطاطون العثمانيون خطوات كبيرة عدت تفوقاً هائلاً في مجال الخط العربي، ويعود هذا التفوق إلى الاهتمام الكبير والتشجيع الذي لقيه هذا الفن وأهله من قبل السلاطين العثمانيين، بل وكان بعض هؤلاء السلاطين أنفسهم من كبار الخطاطين، ومنهم السلاطين: سليمان القانوني، محمود الثاني، مصطفى الثاني، مراد الثاني، مراد الرابع، بايزيد الثاني، السلطان عبدالمجيد الأول، السلطان عبدالعزيز خان، السلطان عبدالحميد الثاني.
وهكذا يمكن اعتبار الخط العربي الوليد الأول والأغنى للحضارة العربية، من دون أن يدين بالكثير للفنون السابقة على الإسلام، فمرحلة الخط بعد انتشار الإسلام أصبحت عبارة عن ممارسة فنية كاملة، على اعتبار أن الخط العربي هو المقابل العربي لمكانة الصورة، ومحاكاته الكائنات البشرية عبر التعبير الفني والتصويري. فقد دخل الخط العربي في أروع أشكاله في زخرفة كل المجالات من كتب ومخطوطات، وقرآن كريم، وقباب ومساجد، وواجهات.
أنواع الخطوط
كان الخطاط «ابن مقلة» أول من وضع للخط العربي قواعد هندسية، وذلك في رسالة من عشر صفحات عن الخط والقلم، معروفة باسم «رسالة الوزير ابن مقلة في علم الخط والقلم»، يتكلم فيها عن الحبر والقصبة، وطريقة هندسة شكل الحروف، أساسها الألف، ثم ترسم دائرة حوله، وتشغل الحروف حيز هذه الدائرة، فمثلاً حرف الراء ربع دائرة، والباء بطول قطر الدائرة الأفقي، وهكذا. وهذه الطريقة تعطي الخطاط حرية الحركة والإبداع للأشكال ضمن قواعد الخط، مع التقيد بنسبة السطوح فقط. وتوفي ابن مقلة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، ولم يكن يعرف قياس الحرف بالنقاط كما فعل ذلك ابن البواب (350 - 413هـ) الذي استطاع أن يكيف جميع الحروف لتطابق النقاط. والنقطة هي عملية جرة قصيرة للقصبة على الورقة، فالنقطة مربعة أحياناً، أو نصف مربعة في خط الرقعة، أو دائرية في الخط الكوفي، لتبدأ رحلة التذهيب والزخرفة والإبداع في تطور الخطوط العربية في رحلتها الطويلة عبر أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان.
وفي بداية الإسلام، كانت الكتابة على أسلوبين من الخط: الأول ذو خطوط حادة وسمي في ما بعد بالكوفي، والآخر مرن سمي بالنسخي، ومن هذين النوعين تشعبت كل أساليب الكتابة الأخرى بأنواع خطوطها المختلفة. وبما أن المطابع لم تكن قد عُرفت، عمد الخلفاء إلى كتابة أوامرهم على ورق مربع ذي مقياس محدد أطلق عليه «الطومار». وفيما يأتي سنعرض نبذة مختصرة عن نشأة بعض أنواع الخطوط.
خط النسخ
كان خط النسخ معروفًا قبل الإسلام، وجعله بعضهم أصل الخط العربي، وأرجع اشتقاقه للخط النبطي. وقد استعمل هذا النوع من الخط قبل الإسلام لكتابة المعلقات في الأسواق الأدبية الجاهلية، وفيها يمكننا أن نجد الشكل الأول لتبلور الخط العربي في ممارسة فنية بمواصفات أسلوبية، وقد عرف أول الأمر بالقلم اللين، لذلك استخدمه قدماء الخطاطين المسلمين لكتابة القرآن الكريم، بسبب سهولة قراءته وجماله وزيادة وضوحه. وأول من وضع قواعده واشتق حروفه الوزير «ابن مقلة»، وأُطلق عليه النسخ لكثرة استعماله في نسخ الكتب ونقلها، لأنه يساعد الكاتب على السير بقلمه بسرعة أكثر من غيره، ثم كتبت به المصاحف في العصور الوسطى الإسلامية، وامتاز بإيضاح الحروف وإظهار جمالها وروعتها.
ونشأ هذا الخط من ضرورة التعامل اليومي، لأن من ميزاته الليونة، الاستدارة وطواعيته ليد الخطاط. وأمكن تطويع هذا الخط لمكائن الطباعة، وهو الأكثر سهولة للمبتدئين من الخطاطين.
ويبرز استخدام خط النسخ بصورة كبيرة على أيدي الخطاطين الأتراك، الذين سموه «خادم القرآن» لكثرة استخدامهم إياه في استنساخ المصحف الشريف، وقلدوا أحياناً طريقة ياقوت الحموي في استخدام خطوط النسخ والمحقق والريحان، وأحياناً الثلث في الصحيفة الواحدة.
الخط الكوفي
أقدم الخطوط العربية وأقربها إلى الشكل الهندسي، اشتق من الخط النبطي المتأخر، واشتهر في البداية بالخط اليابس، بسبب قيام بنائه على خطوط مستقيمة، وزوايا حادة، لاستقامة حروفه، التي تحتاج كتابتها إلى الأدوات الهندسية. وتطور حتى بلغت أنواعه اثني عشر نوعاً، كتبت بها مخطوطات القرآن الكريم منذ القرن الثالث وحتى القرن السادس الهجري، لتشكل بدايات الزخارف البديعة التي ازدهرت فيما بعد في أشكال رائعة في القرن التاسع والعاشر.
ومن أنواعه: الكوفي البسيط الجاف، وهو غير منقط. والكوفي المنقط والمزهر والمشير، وتبرز فيه النزعة التزينية، واستخدم بكثرة لتزيين المساجد والقباب والمآذن. وهناك كوفي المصاحف، وكوفي المباني، وهذا الأخير يختلف من بلد لآخر، وقد تطورت أشكاله تبعاً لرغبة الخطاطين لتطوير أشكال حروفه. وقد أطلقت كلمة «الكوفي» على هذا النوع من الكتابة، نسبة إلى الكوفة التي أنشئت عام 18 هجري، بأمر من الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
خط الثلث
من أصعب أشكال الخط، يمتاز بتداخل حروفه، استخدم بكثرة في المباني الدينية، لقدرة الخطاط على التصرف به، وإمكانات التداخل بين حروفه، وإمكاناته في تكوين تراكيب وأشكال جميلة، والتشكيل وملاءمته لكتابة الكثير من الكلمات المأثورة والحكم المختلفة، الأمر الذي ساعد على ظهور اللوحة الخطية.
وقد لمع بعض الخطاطين الشهيرين الذين كتبوا العبارات المختلفة بهذا الخط، ومنهم الخطاط يوسف بن محمد أمين الشهير بـ «رسا» الذي عاش بدمشق في بداية القرن التاسع عشر، وكتب الكثير من العبارات والحكم والأمثال والآيات القرآنية بهذا النوع من الخطوط، وأبدع فيه أيضاً: بدوي الديراني (1894 - 1967) وحامد الآمدي (1891 - 1982) وغيرهما كثيرون.
الخط الديواني
هو الخط الرسمي الذي كان يستخدم في كتابة الدواوين، وكان سراً من أسرار القصور السلطانية في الدولة العثمانية، وأول من ابتكره هو شهلا باشا، الصدر الأعظم العثماني في عهد السلطان أحمد الثالث (1704 - 1733) الذي أخذ يطوف البلاد الإسلامية كافة داعياً لتبنيه. وفعلاً لقي هذا الوافد الجديد الاستحسان، ثم انتشر بعد ذلك، وتوجد في كتابته مذاهب كثيرة، ويمتاز بأنه يكتب على سطر واحد وله مرونة في كتابة جميع حروفه، لأنه من الخطوط المستديرة المبنية على اللف في شكل الحروف.
وقد استخدمه العثمانيون في المراسيم والرسائل الرسمية الموجهة للدول الأجنبية، وكتبوا به الشهادات الرسمية والخطوط التزيينية، وهذا ما نراه في معظم متاحف الآثار الإسلامية في اسطنبول وغيرها من متاحف العالم والبلاد الإسلامية. ومن أنواعه الديواني الجلي، وفيه تتشابك وتتداخل الخطوط، ويكون ضبط قاعدته على السطرين الأعلى والأسفل، ثم ملء الفراغات بحسب الحس الفني للخطاط، وهو مليء بالتشكيل، والحركات سواء الإملائية أم التزيينية، مع إضافة عدد كبير من النقاط لملء الفراغ وتأمين التكافؤ بين الأرضية والكتابة.
أما أصل تسميته بالجلي، فهو تحريف لكلمة جليل، وكانت واجهات المساجد تزدان بالخط الديواني الجلي، وكذلك القصور، عندما كان الخط العربي يتصدر أعمال الزخرفة في شتى الأماكن والمباني.
الخط الفارسي
ابتكره الفرس وأطلقوا عليه مسمى «النستعليق» من شقين الأول نسخ، والثاني تعليق، أما العرب فقد أسموه الفارسي، ومن شدة تعلق الإيرانيين بهذه الكتابة الوافدة مع الإسلام، أولوها رعايتهم، وأخذ فنانوهم في استيعاب نقاط الجمال فيها، وتفاعلوا معها تفاعلاً مخلصاً، فابتكروا كتابة جديدة أغنت المجموعة التي جلبها العرب ورعوها ودفعوا بها إلى الأمام. وبلغت فنون الخط أوج عطائها في القرنين السابع والثامن الهجريين خصوصاً في عهد التيموريين، فبرز الخطاط مير علي التبريزي (919 - 989هـ)، الذي له أثر محفوظ في المتحف البريطاني يعود تاريخه إلى عام 979 هجري، وإليه نسبت قواعد خط «النستعليق».
وهذا النوع من الخط يعد من أجمل الخطوط التي لها طابع خاص يتميز به عن غيره، إذ يتميز بالرشاقة في حروفه فتبدو وكأنها تنحدر في اتجاه واحد، وتزيد من جماله الخطوط اللينة والمدورة فيه، لأنها أطوع في الرسم وأكثر مرونة لا سيما إذا رُسمت بدقة وأناقة وحسن توزيع، وقد يعمد الخطاط في استعماله إلى الزخرفة للوصول إلى القوة في التعبير بالإفادة من التقويسات والدوائر، فضلاً عن رشاقة الرسم، فقد يربط الفنان بين حروف الكلمة الواحدة والكلمتين ليصل إلى تأليف إطار أو خطوط منحنية وملتفة يُظهر فيها عبقريته في الخيال والإبداع.
الخط المغربي
يمتاز هذا النوع بأنه يكتب بسرعة وسهولة، وهو من الخطوط المعتادة التي تكتب في معظم الدول العربية، والملاحظ فيه أن جميع حروفه مطموسة عدا الفاء والقاف الوسطية. وقد انتشر بداية في المغرب العربي، واستخدم كذلك في الأندلس، وأطلق عليه الخط القرطبي، نسبة إلى مدينة قرطبة، وهو مشتق من الكوفي القديم، ويختلف شكلاً من خطاط إلى آخر، إذ لا توجد له قواعد دقيقة، فيرسم الخطاط حروفه كيف ما يشاء وبحرية تامة.
وتوجد من الخط المغربي صيغ فنية رائعة، متحررة أكثر من غيرها ضمن التراث العربي الإسلامي، تمثل تحفاً خطية نادرة. أحبه الفنانون التشكيليون المعاصرون، واستخدموه في لوحاتهم بكثرة لقدرتهم على التعبير به بحرية.
خط الرقعة
ابتكر للكتابة في الدوائر الرسمية، وتكتب به الآن عناوين الصحف والمجلات والإعلانات، وقد أتى اسمه من الرقعة، أي الورقة الصغيرة، لاعتماده على الرقاع الورقية، ولذلك نراه بعيداً من التعقيد، وواضحاً جداً، تحقيقاً للغرض من إيجاده وهو تيسير الأمور الكتابية اليومية بين العامة، لبساطته سواء في القراءة أم الكتابة، وقد ساهمت الأمور والمعاملات التجارية في إيجاده بدرجة كبيرة، لأن الكتبة في مستهل تنظيم الحياة التجارية كانوا ينظمون الدفاتر اليومية التجارية بخط النسخ. وتتطلب كتابته وقتاً أطول، سواء في القيود أم الفواتير، وكانت كثرة الكتابات واستخدام كتبةٍ كثيرين، وتبديد الوقت، كل ذلك دفع إلى البحث عن حل سريع تمثل في استخدام خط الرقعة توخياً للسرعة، وبالتالي اختصار عدد الكُتاب.
وكان أول من وضع قواعده هو الخطاط العثماني أبو بكر ممتاز بك مصطفى أفندي الشهير باسم المستشار، وذلك في عهد السلطان العثماني عبدالمجيد خان، حوالى عام 1280هـ، ثم اكتسب أسلوباً خاصاً على يد الخطاط محمد عزت (1841 - 1903) واسـتخدم في الكتابة الدارجة والسريعة. وكان واحداً من أصل الأقلام العربية الستة التي كانت مستعملة في الدولة العثمانية. وبحكم كونه يكتب في شكل أصغر من بقية الحروف في الخطوط الأخرى، أصبح الأكثر شيوعاً بين الناس حتى غدا هذا الخط وكأنه الوحيد الذي تتداوله الأيدي في شتى مجالات الكتابة اليومية.
الخط الريحاني
هو مزيج من خطي الثلث والنسخ، وسمي بالريحاني لأن حرفي الألف واللام يتشابكان فيه كتشابك أغصان نبات الريحان، ويعرف في تركيا ومصر باسم «خط الإجازات» لأن العرف قد جرى على استخدامه في كتابة شهادات «الإجازات»، كما استخدم في كتابة ختمات القرآن الكريم، ولعله امتداد لما كان معروفاً في صدر الإسلام بخط الرقاع أو قلم التوقيع. وكان الخطاطون يمنحون تلامذتهم شهادات أو إجازات تؤكد حقهم في التوقيع على ما يكتبون.
وبعد، فإن المتفحص للخط العربي وجمالياته، يستطيع أن يجد في بعض الخطوط قوة تعبيرية توحي بما هو أبعد من الكلمات، وتعطي أحاسيس مختلفة؛ لمجرد النظر إليها، وأحياناً تستدعي صوراً مختلفة نعرفها، وكما نرى الحروف الصلبة المتينة والقوية التي تعكس شخصية وثقة الخطاط بفنه ومهارته، نجد بعضها ضعيفة واهنة، وكأنها خطوط رقيقة لا تثير المشاعر، ولا تعطينا أية انطباعات.
لهذا فالخط العربي له أسراره وأبعاده، التي يدركها الفنان الأصيل، وبواسطة التعبير الخطي يعكس الخطاط أحاسيسه الداخلية، ويسكبها في الحرف، ولا يعتبر إنجاز الخط بمهارة يعطي القوة ومداها، فالخطاط المتمكن يكون كالفنان التعبيري يحرر طاقاته الانفعالية داخل الحرف.
وقد لعبت الخطوط دوراً مهماً في الحضارة العربية، حين انتشرت في البيوت، وعلى الجدران فشملت كل مظاهر الحياة، ولعبت دور اللوحة الفنية في الحضارة الغربية، وخصوصاً حين دخلت الحياة الحديثة، في بداية القرن العشرين، فنادراً ما نرى بيتاً أو مكانًا لا نراه مزيناً بعبارة عامة لخطاط شهير.
وعندما دخلت المطبعة إلى مصر على يد حملة نابليون (1798)، ومن بعدها عاصمة الخلافة العثمانية قام الخطاطون بتظاهرة جنائزية، فحملوا ستاراً أسود ووضعوا أقلامهم ومحابرهم عليه، كأنهم يسيرون بالخط إلى مثواه الأخير، ثم تطورت الطباعة، وتقدمت الحضارة، ودخل الحاسب الآلي حياتنا اليومية في الصحافة والتــلفزيون ودور النشر، وفي كل مكان، فقضى على آخر رمق للخط، على رغم أنه استقى حروفه وخطوطه من الخطاطين وما قدموه، إلا أنه زواهم في طي النسيان ليتربع هو على عرش الكتابة والخط.
* كاتب مصريhttp://www.blogger.com/post-create.g?blogID=6530108287796980031
السبت, 14 مايو 2011
وفي هذا المقال نسير مع الخط العربي، هذا الحرف المقدس، الذي نزل به القرآن الكريم، وجعل النطق به عبادة لله، فلا يقبل الله صلاة بغيره. وجعل فيه سر إعجازه وبيانه، فزاد هذا الحرف جمالاً إلى خصوصياته، ما جعل الخطاطين عبر العصور، وفي سائر البلاد التي يوجد فيها فنانون وخطاطون، يتبارون في رسم حروفه فيطرزونها وينمقونها، ويجعلون من هذا الحرف الصامت حرفاً ينطق بحركة الحيوية، ليعبر عن جماله في تلك الأشكال والحركات، التي جعلته يتكلم من غير لسان، وتفوح رائحته العطرة من خلال متابعة الكلمة الواحدة حرفاً حرفاً.
والخط العربي أكثر إبداعات الحضارة العربية أهمية، وأكثرها شمولاً لكل مظاهرها؛ لارتباطه بكل إنجازات هذه الحضارة، وبكل ما أبدعه العرب من فنون وعلوم وآداب، إذ لم تكن هذه الحضارة ممكنة من دون كتابة عربية تدون الإنتاج، ومن دون خط عربي مرن وسلس قادر على حفظ نتاج الفكر والعلم، وتدوين ذلك بيسر وسهولة، لهذا تكثف الإبداع في الخط العربي، وأعطى أصالة هذه الحضارة، فقد أُخذت الخطوط القديمة، وأُعيد النظر فيها، ووضعت لها القواعد والضوابط التي مكنت من عملية انتقال الحضارة وشيوعها، وانتقال مبادئها، وأسسها إلى الآخرين.
لهذا فقد حفظ الخط كل ما أُنتج، وزين كل ما شُيد، ولذلك عُد الفن الأكثر صلة بما أبدعه العرب من إنتاج متنوع، لأنه الإنتاج الأول الذي ازدهر مع هذه الحضارة، وقدم لإبداعها التجسيد المادي على الورق، والجدران، والأواني، وقد تمكن الخطاط العربي من أن يبدل جوهرياً الكتابات السابقة له، وذلك لكي لا تضيع الكلمات وتتداخل، ولكي يصبح الخط أكثر رشاقةً وجمالاً وانضباطاً، ولهذا فهو الفن الوحيد الذي ازدهر مع الحضارة العربية، وهو الوسيلة الرئيسة للإبداع الفني، إذ إن الخطاط العربي قد تمرّد على الأشكال التقليدية للخطوط السابقة، وجعل الخطوط العربية لها سماتها المميزة، وأضاف إليها ما يُعتبر ثورة في مجال تطور الكتابة، لهذا نستطيع القول إن الخط هو الإنتاج العربي الذي استطاع الفنان فيه أن يحقق تطوراً شاملاً. وهكذا حقق الخطاط العربي أعظم إبداعات الحضارة أهمية.
واختلف المؤرخون والعلماء حول نشأة الخط العربي، ففريق يرى أن نشأته كانت إلهية محضة، إذ إن الله عز وجل قد أوحى إلى آدم بطريقة الكتابات كلها ثم كتب بها آدم كل الكتب، وبعد زوال طوفان نوح عليه السلام أصاب كل قوم كتابهم فكان من نصيب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي، ويطلق علماء الخط على هذا الاتجاه «نظرية التوقيف». بينما يذهب فريق آخر إلى أن الخط العربي اشتق من الخط المسند الذي يعرف باسم «الخط الحميري أو الجنوبي»، الى درجة أنهم أطلقوا على هذا الخط اسم «الجزم» لأنه جُزم أو اقتطع من الخط الحميري، وهذا هو رأي ابن خلدون الذي يقول: «وقد كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف، وهو المسمى بالخط الحميري. وانتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة إلى المنذر نسباء التبابعة في العصبية، والمجددين لملك العرب بأرض العراق. ولم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة، لقصور ما بين الدولتين. فكانت الحضارة وتوابعها من الصنائع وغيرها قاصرة عن ذلك. ومن الحيرة لقنه أهل الطائف وقريش».
أما الفريق الثالث فيرجح أن الخط العربي ما هو إلا نتاج تطور عن الخط النبطي، المتحدّر من الخط الآرامي، وهذا ما تؤكده النقوش التي ترجع إلى ما قبل الإسلام والقرن الهجري الأول، وهذه النقوش نجدها في منطقة «أم الجمال» شرق الأردن، ويعود تاريخها إلى 250م، وهناك نقش وجد في منطقة حوران إحدى ديار الأنباط يعود تاريخه إلى 328م، وهو عبارة عن شاهدة قبر امرئ القيس الملك والشاعر الشهير، ثم انتقل الخط من حوران إلى الأنبار والحيرة، وقام الأنباط بإجراء بعض التعديلات على الخط الآرامي، الذي نسب إليهم فعرف بالخط النبطي، ثم كان لهم الفضل في نقله إلى العرب في الحجاز؛ نظراً إلى علاقاتهم التجارية الوثيقة مع الجزيرة العربية.
وهناك نظرية رابعة حديثة كشف عنها النقاب الخطاط والباحث في تاريخ الخط العربي الشهير يوسف ذنون دحض فيها الآراء الثلاثة السابقة، وذهب إلى أن الكتابة الحضرية الخاصة بمملكة الحضر العربية تشكلت في الجزيرة الفراتية، وتعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، ومنها انتشرت كتابتها ولم تقتصر على الحضر، وتطورت عنها الآرامية. ويؤيد اتجاهه بإجراء مقارنات بين أشكال الحروف الحضرية والكتابة الآرامية، والحروف العربية المعاصرة، ليدلل على اشتراك هذه الكتابة في الخصائص العامة مع الكتابات المعاصرة المتطورة عن الآرامية، ليذهب إلى جزم هذه الكتابة عن الكتابة الحضرية في رحلة الكتابة العربية المبكرة إلى بلاد الشام، وتأثيراتها المتبادلة بعد ذلك في أعراب الجزيرة العربية.
وبالنسبة إلي أميل إلى الرأي الذي يقول إن التدوين يرجع إلى أبي البشرية آدم استشهاداً بقوله تعالى: «وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين» (البقرة: الآية 31) وقوله تعالى مخاطباً سيدنا محمد… «اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم» (العلق: الآيات1 - 5).
نشأة أنواع الخطوط
لم يتفق المؤرخون وعلماء اللغة العربية على تحديد جذور الكتابة العربية، ولكن ذهب الأغلب إلى أن أصل الخط أخذ من الخط النبطي المأخوذ من الخط الآرامي، فقد قلد العرب النبط في حذف الألف من بين بعض الأسماء والأعلام واحتفظوا بعدد الحروف النبطية نفسه، وتركيبها الأبجدي نفسه، ثم تطور الخط عبر مدرستين: أولاهما الكوفية، والثانية الحجازية. أما الخط الكوفي فكان يميل إلى اليباس مع القسوة، بينما يمتاز الحجازي بليونته وسهولة كتابته. ويمكن اعتبار ظاهرة جمع القرآن الكريم في عهد الخليفة عثمان بن عفان بالخط الكوفي حادثة ذات أهمية ممزوجة للدلالة من حيث نشوء ظاهرة الكتاب أولاً، ومن حيث نشوء ظاهرة الخط الأسلوبي اللين ثانياً، وكان هذا الخط غير منقّط، وغيرمُشكّل، ولم تكن له علامات لبدايات السور ونهاياتها، ولا أرقام للآيات الكريمة.
وكان لا بد أن يتطور هذا الخط إثر انطلاق ظاهرة الاهتمام المتزايد بتدوين القرآن الكريم، الأمر الذي منح الخطاطين فرصة ذهبية لتنويع طرق الكتابة وإغنائها، ما جعل الخط أسلوباً، ومع انتشار الحضارة العربية الإسلامية في بلاد عدة، تنوعت الصيغ في الخط العربي، فمر بمراحل عدّة كوضع النقاط على الحروف أولاً، ووضع التشكيل الخفيف والمصطلحات الضبطية، ثم تطور الخط وتشعبت أنواعه بعد ذلك على يد خطاطي العصر الأموي، وأولهم قطبة المحرر (المتوفي عام 154هـ) الذي استخرج الأقلام الأربعة: الطومار والجليل والثلث والنصف، واشتق بعضها من بعض، وكان في عصره أكتب الناس وأعلمهم بقواعد الخط العربي، ثم انتقل من التدوين إلى الزخرفة من خلال إدخال التزيينات والذهب في الآيات القرآنية. وفي العصر العباسي ظهر ابن مقلة (272 - 328هـ) الوزير المعروف الذي كان خطه مضرب الأمثال في البهاء والجمال، فجوّد الخط ووضع موازين الحروف بأبعاد هندسية حتى وصل هذا الفن إلى مرتبة لا تضاهى. واستمر تطور الخط ووضع القواعد له حتى العصر العثماني على يد مصطفى الراقم (1758 - 1826) وشقيقه إسماعيل الزهدي، اللذين سار على نهجهما بقية الخطاطين العثمانيين.
ويظهر الخط العربي بأروع صوره في الفن العثماني، فقد نضجت صوره وأشكاله، وسار به الخطاطون العثمانيون خطوات كبيرة عدت تفوقاً هائلاً في مجال الخط العربي، ويعود هذا التفوق إلى الاهتمام الكبير والتشجيع الذي لقيه هذا الفن وأهله من قبل السلاطين العثمانيين، بل وكان بعض هؤلاء السلاطين أنفسهم من كبار الخطاطين، ومنهم السلاطين: سليمان القانوني، محمود الثاني، مصطفى الثاني، مراد الثاني، مراد الرابع، بايزيد الثاني، السلطان عبدالمجيد الأول، السلطان عبدالعزيز خان، السلطان عبدالحميد الثاني.
وهكذا يمكن اعتبار الخط العربي الوليد الأول والأغنى للحضارة العربية، من دون أن يدين بالكثير للفنون السابقة على الإسلام، فمرحلة الخط بعد انتشار الإسلام أصبحت عبارة عن ممارسة فنية كاملة، على اعتبار أن الخط العربي هو المقابل العربي لمكانة الصورة، ومحاكاته الكائنات البشرية عبر التعبير الفني والتصويري. فقد دخل الخط العربي في أروع أشكاله في زخرفة كل المجالات من كتب ومخطوطات، وقرآن كريم، وقباب ومساجد، وواجهات.
أنواع الخطوط
كان الخطاط «ابن مقلة» أول من وضع للخط العربي قواعد هندسية، وذلك في رسالة من عشر صفحات عن الخط والقلم، معروفة باسم «رسالة الوزير ابن مقلة في علم الخط والقلم»، يتكلم فيها عن الحبر والقصبة، وطريقة هندسة شكل الحروف، أساسها الألف، ثم ترسم دائرة حوله، وتشغل الحروف حيز هذه الدائرة، فمثلاً حرف الراء ربع دائرة، والباء بطول قطر الدائرة الأفقي، وهكذا. وهذه الطريقة تعطي الخطاط حرية الحركة والإبداع للأشكال ضمن قواعد الخط، مع التقيد بنسبة السطوح فقط. وتوفي ابن مقلة في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي)، ولم يكن يعرف قياس الحرف بالنقاط كما فعل ذلك ابن البواب (350 - 413هـ) الذي استطاع أن يكيف جميع الحروف لتطابق النقاط. والنقطة هي عملية جرة قصيرة للقصبة على الورقة، فالنقطة مربعة أحياناً، أو نصف مربعة في خط الرقعة، أو دائرية في الخط الكوفي، لتبدأ رحلة التذهيب والزخرفة والإبداع في تطور الخطوط العربية في رحلتها الطويلة عبر أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان.
وفي بداية الإسلام، كانت الكتابة على أسلوبين من الخط: الأول ذو خطوط حادة وسمي في ما بعد بالكوفي، والآخر مرن سمي بالنسخي، ومن هذين النوعين تشعبت كل أساليب الكتابة الأخرى بأنواع خطوطها المختلفة. وبما أن المطابع لم تكن قد عُرفت، عمد الخلفاء إلى كتابة أوامرهم على ورق مربع ذي مقياس محدد أطلق عليه «الطومار». وفيما يأتي سنعرض نبذة مختصرة عن نشأة بعض أنواع الخطوط.
خط النسخ
كان خط النسخ معروفًا قبل الإسلام، وجعله بعضهم أصل الخط العربي، وأرجع اشتقاقه للخط النبطي. وقد استعمل هذا النوع من الخط قبل الإسلام لكتابة المعلقات في الأسواق الأدبية الجاهلية، وفيها يمكننا أن نجد الشكل الأول لتبلور الخط العربي في ممارسة فنية بمواصفات أسلوبية، وقد عرف أول الأمر بالقلم اللين، لذلك استخدمه قدماء الخطاطين المسلمين لكتابة القرآن الكريم، بسبب سهولة قراءته وجماله وزيادة وضوحه. وأول من وضع قواعده واشتق حروفه الوزير «ابن مقلة»، وأُطلق عليه النسخ لكثرة استعماله في نسخ الكتب ونقلها، لأنه يساعد الكاتب على السير بقلمه بسرعة أكثر من غيره، ثم كتبت به المصاحف في العصور الوسطى الإسلامية، وامتاز بإيضاح الحروف وإظهار جمالها وروعتها.
ونشأ هذا الخط من ضرورة التعامل اليومي، لأن من ميزاته الليونة، الاستدارة وطواعيته ليد الخطاط. وأمكن تطويع هذا الخط لمكائن الطباعة، وهو الأكثر سهولة للمبتدئين من الخطاطين.
ويبرز استخدام خط النسخ بصورة كبيرة على أيدي الخطاطين الأتراك، الذين سموه «خادم القرآن» لكثرة استخدامهم إياه في استنساخ المصحف الشريف، وقلدوا أحياناً طريقة ياقوت الحموي في استخدام خطوط النسخ والمحقق والريحان، وأحياناً الثلث في الصحيفة الواحدة.
الخط الكوفي
أقدم الخطوط العربية وأقربها إلى الشكل الهندسي، اشتق من الخط النبطي المتأخر، واشتهر في البداية بالخط اليابس، بسبب قيام بنائه على خطوط مستقيمة، وزوايا حادة، لاستقامة حروفه، التي تحتاج كتابتها إلى الأدوات الهندسية. وتطور حتى بلغت أنواعه اثني عشر نوعاً، كتبت بها مخطوطات القرآن الكريم منذ القرن الثالث وحتى القرن السادس الهجري، لتشكل بدايات الزخارف البديعة التي ازدهرت فيما بعد في أشكال رائعة في القرن التاسع والعاشر.
ومن أنواعه: الكوفي البسيط الجاف، وهو غير منقط. والكوفي المنقط والمزهر والمشير، وتبرز فيه النزعة التزينية، واستخدم بكثرة لتزيين المساجد والقباب والمآذن. وهناك كوفي المصاحف، وكوفي المباني، وهذا الأخير يختلف من بلد لآخر، وقد تطورت أشكاله تبعاً لرغبة الخطاطين لتطوير أشكال حروفه. وقد أطلقت كلمة «الكوفي» على هذا النوع من الكتابة، نسبة إلى الكوفة التي أنشئت عام 18 هجري، بأمر من الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.
خط الثلث
من أصعب أشكال الخط، يمتاز بتداخل حروفه، استخدم بكثرة في المباني الدينية، لقدرة الخطاط على التصرف به، وإمكانات التداخل بين حروفه، وإمكاناته في تكوين تراكيب وأشكال جميلة، والتشكيل وملاءمته لكتابة الكثير من الكلمات المأثورة والحكم المختلفة، الأمر الذي ساعد على ظهور اللوحة الخطية.
وقد لمع بعض الخطاطين الشهيرين الذين كتبوا العبارات المختلفة بهذا الخط، ومنهم الخطاط يوسف بن محمد أمين الشهير بـ «رسا» الذي عاش بدمشق في بداية القرن التاسع عشر، وكتب الكثير من العبارات والحكم والأمثال والآيات القرآنية بهذا النوع من الخطوط، وأبدع فيه أيضاً: بدوي الديراني (1894 - 1967) وحامد الآمدي (1891 - 1982) وغيرهما كثيرون.
الخط الديواني
هو الخط الرسمي الذي كان يستخدم في كتابة الدواوين، وكان سراً من أسرار القصور السلطانية في الدولة العثمانية، وأول من ابتكره هو شهلا باشا، الصدر الأعظم العثماني في عهد السلطان أحمد الثالث (1704 - 1733) الذي أخذ يطوف البلاد الإسلامية كافة داعياً لتبنيه. وفعلاً لقي هذا الوافد الجديد الاستحسان، ثم انتشر بعد ذلك، وتوجد في كتابته مذاهب كثيرة، ويمتاز بأنه يكتب على سطر واحد وله مرونة في كتابة جميع حروفه، لأنه من الخطوط المستديرة المبنية على اللف في شكل الحروف.
وقد استخدمه العثمانيون في المراسيم والرسائل الرسمية الموجهة للدول الأجنبية، وكتبوا به الشهادات الرسمية والخطوط التزيينية، وهذا ما نراه في معظم متاحف الآثار الإسلامية في اسطنبول وغيرها من متاحف العالم والبلاد الإسلامية. ومن أنواعه الديواني الجلي، وفيه تتشابك وتتداخل الخطوط، ويكون ضبط قاعدته على السطرين الأعلى والأسفل، ثم ملء الفراغات بحسب الحس الفني للخطاط، وهو مليء بالتشكيل، والحركات سواء الإملائية أم التزيينية، مع إضافة عدد كبير من النقاط لملء الفراغ وتأمين التكافؤ بين الأرضية والكتابة.
أما أصل تسميته بالجلي، فهو تحريف لكلمة جليل، وكانت واجهات المساجد تزدان بالخط الديواني الجلي، وكذلك القصور، عندما كان الخط العربي يتصدر أعمال الزخرفة في شتى الأماكن والمباني.
الخط الفارسي
ابتكره الفرس وأطلقوا عليه مسمى «النستعليق» من شقين الأول نسخ، والثاني تعليق، أما العرب فقد أسموه الفارسي، ومن شدة تعلق الإيرانيين بهذه الكتابة الوافدة مع الإسلام، أولوها رعايتهم، وأخذ فنانوهم في استيعاب نقاط الجمال فيها، وتفاعلوا معها تفاعلاً مخلصاً، فابتكروا كتابة جديدة أغنت المجموعة التي جلبها العرب ورعوها ودفعوا بها إلى الأمام. وبلغت فنون الخط أوج عطائها في القرنين السابع والثامن الهجريين خصوصاً في عهد التيموريين، فبرز الخطاط مير علي التبريزي (919 - 989هـ)، الذي له أثر محفوظ في المتحف البريطاني يعود تاريخه إلى عام 979 هجري، وإليه نسبت قواعد خط «النستعليق».
وهذا النوع من الخط يعد من أجمل الخطوط التي لها طابع خاص يتميز به عن غيره، إذ يتميز بالرشاقة في حروفه فتبدو وكأنها تنحدر في اتجاه واحد، وتزيد من جماله الخطوط اللينة والمدورة فيه، لأنها أطوع في الرسم وأكثر مرونة لا سيما إذا رُسمت بدقة وأناقة وحسن توزيع، وقد يعمد الخطاط في استعماله إلى الزخرفة للوصول إلى القوة في التعبير بالإفادة من التقويسات والدوائر، فضلاً عن رشاقة الرسم، فقد يربط الفنان بين حروف الكلمة الواحدة والكلمتين ليصل إلى تأليف إطار أو خطوط منحنية وملتفة يُظهر فيها عبقريته في الخيال والإبداع.
الخط المغربي
يمتاز هذا النوع بأنه يكتب بسرعة وسهولة، وهو من الخطوط المعتادة التي تكتب في معظم الدول العربية، والملاحظ فيه أن جميع حروفه مطموسة عدا الفاء والقاف الوسطية. وقد انتشر بداية في المغرب العربي، واستخدم كذلك في الأندلس، وأطلق عليه الخط القرطبي، نسبة إلى مدينة قرطبة، وهو مشتق من الكوفي القديم، ويختلف شكلاً من خطاط إلى آخر، إذ لا توجد له قواعد دقيقة، فيرسم الخطاط حروفه كيف ما يشاء وبحرية تامة.
وتوجد من الخط المغربي صيغ فنية رائعة، متحررة أكثر من غيرها ضمن التراث العربي الإسلامي، تمثل تحفاً خطية نادرة. أحبه الفنانون التشكيليون المعاصرون، واستخدموه في لوحاتهم بكثرة لقدرتهم على التعبير به بحرية.
خط الرقعة
ابتكر للكتابة في الدوائر الرسمية، وتكتب به الآن عناوين الصحف والمجلات والإعلانات، وقد أتى اسمه من الرقعة، أي الورقة الصغيرة، لاعتماده على الرقاع الورقية، ولذلك نراه بعيداً من التعقيد، وواضحاً جداً، تحقيقاً للغرض من إيجاده وهو تيسير الأمور الكتابية اليومية بين العامة، لبساطته سواء في القراءة أم الكتابة، وقد ساهمت الأمور والمعاملات التجارية في إيجاده بدرجة كبيرة، لأن الكتبة في مستهل تنظيم الحياة التجارية كانوا ينظمون الدفاتر اليومية التجارية بخط النسخ. وتتطلب كتابته وقتاً أطول، سواء في القيود أم الفواتير، وكانت كثرة الكتابات واستخدام كتبةٍ كثيرين، وتبديد الوقت، كل ذلك دفع إلى البحث عن حل سريع تمثل في استخدام خط الرقعة توخياً للسرعة، وبالتالي اختصار عدد الكُتاب.
وكان أول من وضع قواعده هو الخطاط العثماني أبو بكر ممتاز بك مصطفى أفندي الشهير باسم المستشار، وذلك في عهد السلطان العثماني عبدالمجيد خان، حوالى عام 1280هـ، ثم اكتسب أسلوباً خاصاً على يد الخطاط محمد عزت (1841 - 1903) واسـتخدم في الكتابة الدارجة والسريعة. وكان واحداً من أصل الأقلام العربية الستة التي كانت مستعملة في الدولة العثمانية. وبحكم كونه يكتب في شكل أصغر من بقية الحروف في الخطوط الأخرى، أصبح الأكثر شيوعاً بين الناس حتى غدا هذا الخط وكأنه الوحيد الذي تتداوله الأيدي في شتى مجالات الكتابة اليومية.
الخط الريحاني
هو مزيج من خطي الثلث والنسخ، وسمي بالريحاني لأن حرفي الألف واللام يتشابكان فيه كتشابك أغصان نبات الريحان، ويعرف في تركيا ومصر باسم «خط الإجازات» لأن العرف قد جرى على استخدامه في كتابة شهادات «الإجازات»، كما استخدم في كتابة ختمات القرآن الكريم، ولعله امتداد لما كان معروفاً في صدر الإسلام بخط الرقاع أو قلم التوقيع. وكان الخطاطون يمنحون تلامذتهم شهادات أو إجازات تؤكد حقهم في التوقيع على ما يكتبون.
وبعد، فإن المتفحص للخط العربي وجمالياته، يستطيع أن يجد في بعض الخطوط قوة تعبيرية توحي بما هو أبعد من الكلمات، وتعطي أحاسيس مختلفة؛ لمجرد النظر إليها، وأحياناً تستدعي صوراً مختلفة نعرفها، وكما نرى الحروف الصلبة المتينة والقوية التي تعكس شخصية وثقة الخطاط بفنه ومهارته، نجد بعضها ضعيفة واهنة، وكأنها خطوط رقيقة لا تثير المشاعر، ولا تعطينا أية انطباعات.
لهذا فالخط العربي له أسراره وأبعاده، التي يدركها الفنان الأصيل، وبواسطة التعبير الخطي يعكس الخطاط أحاسيسه الداخلية، ويسكبها في الحرف، ولا يعتبر إنجاز الخط بمهارة يعطي القوة ومداها، فالخطاط المتمكن يكون كالفنان التعبيري يحرر طاقاته الانفعالية داخل الحرف.
وقد لعبت الخطوط دوراً مهماً في الحضارة العربية، حين انتشرت في البيوت، وعلى الجدران فشملت كل مظاهر الحياة، ولعبت دور اللوحة الفنية في الحضارة الغربية، وخصوصاً حين دخلت الحياة الحديثة، في بداية القرن العشرين، فنادراً ما نرى بيتاً أو مكانًا لا نراه مزيناً بعبارة عامة لخطاط شهير.
وعندما دخلت المطبعة إلى مصر على يد حملة نابليون (1798)، ومن بعدها عاصمة الخلافة العثمانية قام الخطاطون بتظاهرة جنائزية، فحملوا ستاراً أسود ووضعوا أقلامهم ومحابرهم عليه، كأنهم يسيرون بالخط إلى مثواه الأخير، ثم تطورت الطباعة، وتقدمت الحضارة، ودخل الحاسب الآلي حياتنا اليومية في الصحافة والتــلفزيون ودور النشر، وفي كل مكان، فقضى على آخر رمق للخط، على رغم أنه استقى حروفه وخطوطه من الخطاطين وما قدموه، إلا أنه زواهم في طي النسيان ليتربع هو على عرش الكتابة والخط.
* كاتب مصريhttp://www.blogger.com/post-create.g?blogID=6530108287796980031