وقفية الأمير يونس الداوادار الخاصة بقلعة خان يونس
أعد
هذا التقرير
المستشار مهندس/
محمد يحيي عبد الرحمن الفرا
رئيس جمعية القلعة لرعاية التراث
التاريخ الاجتماعي لأي شعب يبرز عبر رموزه التاريخية وبهذا التاريخ يستطيع كل جيل يأتي إلى الساحة أن يكتشف لنفسه وبنفسه كل ما حدث: وبالتالي يجد نفسه ويحدد موقعه بل ودوره.
وشعب فلسطين الذي طمست حروب أعدائه المتلاحقة العديد من قدراته وشوهت رموزه ومازال يحاول جاهداً حتى اليوم تشويه ملامحه السياسية وخنق قدراته ومقدراته الاقتصادية وكل ما يمكن من مقومات تقيم له كيان .. ومن هذه المقومات بالطبع التاريخ الاجتماعي .. هذا الشعب هو بحاجة إلى تأكيد تاريخه الاجتماعي بالحفاظ على ما تبقى منه وإعادة إحياء من اندثر وما شوه منه خصوصاً الوقف وهو الهدف من هذا الموضوع.
تعريف الوقف:
لقد كان للوقف الإسلامي دوره الفعال على الحياة الدينية والثقافية بل والاجتماعية والاقتصادية في فلسطين، غطت معظم مناحي حياة السكان بما أوقف له أهل الخير والإحسان من أراضٍ زراعية واسعة، بالإضافة للعديد من المؤسسات الاقتصادية التي كان يصب دخلها من أجل خدمة المواطنين.كما كان للوقف ومازال أهميته البارزة في التوسع العمراني داخل المدن والقرى الفلسطينية ومنها " خان يونس "
فمن أبرز ما أوقف بمدينة خان يونس - مركز عمرانها وبؤرة سكانها- الخان نفسه، ولا مجال لإنكار ذلك أو المناقشة فيه, فوثيقة وقفه ظاهرة للعيان منذ أول يوم تم فيها بناؤه، كما جاء جلياً في إحدى حجارته التأسيسية التي ما زالت باقية في بنائه حتى اليوم وهي بمثابة "وقفية" جاء فيها:
السطر الأول { أنشئ هذا الخان أيام سيدنا السلطان
الملك الظاهر سيف الدنيا والدين أبي سعيد برقوق خلد الله سلطانه وشد بالصالحات أركانه }.
السطر الثاني { أوقفه المقر الشريف العالي المولوي الزعيمى المثاغري الشرفي ظهير الملوك والسلاطين والفقراء والمساكين أمير المؤمنين التقي يونس النوروزي الداودار لمولانا السلطان الملك الظاهري أعز الله تعالى أنصاره وضعاف جزاءه }([1])
و يؤيد هذا لدى قراءتنا لبعض الوقـفيات الخاصة بخان يونس بأرشيف الأوقاف الإسلامية بالقدس والخاص بالأوقاف الإسلامية في غزة وقراها، ما ورد عن خان الوقف في خان يونس العائد للجامع سنة 1926 تحت ( رمز الملف 10/1.4/26/12/ ).
(والوقف هو حبس شيئ معلوم بصفة معلومة .. أي حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة).
قال تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" (آل عمران الآية 93).
وقال عز من قائل: "مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله والرسول وذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب" (الحشر الآية 7).
وجاء عن الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث .. صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له). وعليه تم تعريف الوقف بأنه صدقة جارية.
وعليه فقد أصبح معلوماً في جميع الشرائع السماوية والأعراف الدولية وكذلك القوانين الإنسانية بأن (الوقف) رقبته لله رب العالمين فلا يوهب ولا يورث ولا يباع ولا يشترى ولا يُنقل .. ريعه عائد للموقوف عليه وبالتالي مهما وليت عليه لجان أو مؤسسات محلية أو أفراد فليست لها صفة المالك للوقف بل هي بمثابة موظف فقط وأما الوقف لا يتغير ولا يتبدل بتغير اللجان أو المؤسسات أو الأفراد .. هذا هو الوقف في مفهومه وأن التعدي عليه هو اعتداء على القوانين الإنسانية.
وحيث أن الأراضي الفلسطينية لها طابع قدسي خاص باعتبارها أرض وقف وباعتبارها مستهدفة من قبل الأعداء على طول تاريخها المديد فإن الأرض المقامة عليها آثار إسلامية يزيد هذه الأرض أهمية وقدسية فوق أهمية وقدسية الأراضي الفلسطينية مثلما هي أرض قلعة خان يونس.
ولما كانت قلعة خان يونس وأرضها البالغ (مساحتها5.5دونم) وقفية قد استولى عليها نفر من عائلة الآغا بوعي منهم أو بدون وعي .. أصبح لزاماً على الجميع أن يكون لهم وقفة لنصرتها التي هي جزء من نصرة الدين وإزالة التعديات عنها وإعادتها ومن ثم إعادة إعمارها لتعود تحقق لبانيها ومنشؤها وواقفها (الأمير يونس الداوادار) الأجر وحسن الثناء عليه طول الدهر في كل جيل حسب ما تمناه وحسب ما جاء في وصيته التي أوقف فيها القلعة والتي نقشت على أكثر من موقع على أبواب القلعة وداخلها كما يلي:
أولاً: يوجد النص التالي منقوش على قمة البوابة من الخارج على شكل لوحة من الرخام رباعية الشكل تحتوي على خمسة سطور يبين السطر الخامس منها تاريخ الخان (سنة 789 هـ الموافق 1378م).
(أقول والحق له رونق يقوم في نفس مقام الدليل أنه له العرش سبحانه قد عضد الملك بأكفى كفيل. فالملك الظاهر بحر الندى أبي سعيد ذي العطاء الجزيل. فأصبحت مصر به جنة وأهلها في لهو ظل ظليل وألهم الله داواداره يونس للخير وفضل جميل أنفق من ملجأه ومن ماله خانة الله بخان السبيل يبغي به الأجر وحسن الثناء عليه طول الدهر في كل جيل لا أمر الله بها دولة ولا حامية من بركات الجليل وتم الخان لتسع مضت بعد ثمانين بعون الجليل وسبع مئين لذا أرخو وحسبنا الله ونعم الوكيل).
ثانياً: كما يوجد على يمين البوابة ويسارها والمشاهد يقف أمامها النص التالي منقوشاً على حجارتها والذي يؤكد على وقفية القلعة ومنشؤها:-
(بسم الله الرحمن الرحيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. أنشئ هذا الخان في أيام سيدنا ومولانا السلطان الملك الظاهر سيف الدنيا والدين أبي سعيد برقوق خلد الله سلطانه وشد بالصالحات أركانه أوقفه المقر الشريف العالي المولوي الأميري الزعيمي السفيري الشرفي ظهير الملوك والسلاطين المعروف بحب الفقراء والمساكين أمير المؤمنين التقي يونس النوروزي الداوادار مولانا السلطان الملك الظاهري عز الله تعالى أنصاره وضاعف جزاؤه).
النص المنقوش فوق بوابة القلعة |
النص المنقوش الذي يوضح وقفية القلعة
ثالثاً: بعد دخولك البوابة الرئيسية يوجد على اليسار باب مسجد الخان وفوق هذا الباب سوف نجد النص التالي منقوشاً على الحجارة يؤكد الوقفية:-
(بسم الله الرحمن الرحيم إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين. أنشأه ووقفه الشريف العالي المولوي الأميري الزعيمي السفيري الشرفي يونس الداوادار مولانا السلطان الظاهر شكر الله عمله وابلغه أمله)
ويؤيد هذا لدى قراءتنا لبعض الوقفيات الخاصة بخان يونس بأرشيف الأوقاف الإسلامية بالقدس والخاص بالأوقاف الإسلامية في غزة وقراها وما ورد عن خان الوقف في خان يونس العائد للجامع سنة 1926 (تحت رمز 10/14/26/12) وبعد جاء في أرشيف جامع خان يونس ذكر تعويض الوقف عن الفرن في خان يونس سنة 1914 تحت الرمز 10/1.26/41/12.
كما جاء في كتاب المؤرخ والباحث الفلسطيني ا. /سليم عرفات المبيض (يوميات المجاهد عبد الرحمن الفرا "أبو اسعد") رئيس بلدية خان يونس.
والقلعة مربعة الشكل طول كل ضلع من أضلاعها 85.5 متر وكل ضلع منها يشير إلى اتجاه من الاتجاهات الأربعة .. (مساحتها 5.5 دونم) .. يوجد على كل زاوية من زواياها الأربع برج دائري .. تتألف من طابقين .. الأول إسطبلات لحيوانات القوافل ومخازن تلبي حاجات القوافل وسوق يعرض فيه التجار سلعهم .. أما الطابق العلوي فكان مخصصاً لمسجد للصلاة وفندق يشتمل على غرف وقاعة كبيرة (ديوان) يلتقي فيه الناس .. كانت بحق أكبر وأفضل خان أنشئ على الطريق من مصر حتى حلب بشهادة المؤرخين وكان بحق آية من آيات الفن المعماري الإسلامي.
هذه القلعة كانت النواة الحقيقية للمدينة الحديثة ولولاها ربما لما ظهرت إلى الوجود مدينة اسمها خان يونس, إنها معلم تاريخي بارز .. ومما يؤسف له حقاً أن أهل خان يونس ورؤساء ومجالس بلديتها بعد 1957م لم يقدروا قلعتهم ولم يولوها ما تستحق من اهتمام, ولم يحاولوا الحفاظ عليها وبدلاً من ذلك غضوا النظر عن مغتصبيها الذين قاموا بهدم مرافقها ومنشآتها وأقاموا مساكنهم وديوان لهم .. حتى السور نفسه (وارتفاعه 9.5 متر) لم يسلم من الهدم والتدمير وقاموا ببناء محلات تجارية وقاموا بتأجيرها أمام مسمع ومرأى بلدية خان يونس والجهات المعنية الأخرى, وكأنهما بذلك يساعدوا المعتدي ويدعموا أعماله.
وقد نقش الأمير يونس على مدخل القلعة وقرب البوابة الرئيسية الغربية شعاره الذي يتألف من كأسين ومحبرة.
لم يعمر الأمير يونس الداوادار طويلاً بعد أن فرغ من بناء هذه القلعة أو الخان الذي خلد اسمه على مر العصور والأزمان ... إذ قتل بعد ذلك بعامِ واحد أي سنة (790هـ - 1388م) في إحدى المعارك بعد أن بدأت الفتن تتجمع بعصيان بعض الأمراء على السلطان برقوق ... وكان مقتله للأسف الشديد نتيجة خيانة بعض رفاقه من الأمراء بالقرب من مدينة دمشق ... فكما أن قلعته التي أنشأها وأوقفها وتم اغتصابها ... لم يسلم هو شخصياً فقتل خيانة وغدراً وحقداً.
والله من وراء القصد
أعد هذا التقرير
المستشار مهندس/ محمد يحيي عبد الرحمن الفرا
رئيس جمعية القلعة لرعاية التراث
[1]) للمزيد انظر سليم عرفات المبيض – البنايات الأثرية الإسلامية – المرجع السابق ص 379.