منير الشعراني: فنون الخط العربي لا تقف جامدة عند عصر معين
قال إن إهمال أنواع كثيرة من الخطوط العربية تم في العصر العثماني
|
قبل نحو 32 عاما غادر الخطاط والفنان التشكيلي السوري منير الشعراني دمشق متوجها أولا إلى بيروت ليقيم فيها باسم مستعار ثلاث سنوات، ثم غادرها إلى قبرص وبعدها إلى القاهرة ليستقر بها ويقدم عبر مسيرته الفنية مئات الأعمال الجميلة في مجال الخط العربي. ومن خلال هذه الأعمال تمكن الشعراني من إطلاق أسلوب مجدد في مجال الخطوط العربية، ليؤكد أن فنون الخط العربي لا تقف جامدة عند مرحلة معينة أو عصر معين، بل هي مثل مختلف الفنون الإبداعية متحركة ومتطورة ويمكن التحديث فيها. وفي عام 2004 وبعد غيابه القسري، عاد الشعراني إلى دمشق ليستكمل رحلته الإبداعية مع الخط العربي وجمالياته من خلال معارض متنوعة ومن خلال مرسمه في حي المهاجرين بدمشق، حيث أقام صالة عرض دائم لأعماله.
«الشرق الأوسط» التقت الخطاط الشعراني في مرسمه بدمشق، وتحدث عن رحلته وبداياته مع فنون الخط العربي واختياره له منطلقا ومستقرا لتجربته الإبداعية. وقد قال متذكرا «اتجهت لفن الخط العربي منذ طفولتي حيث أتذكر أنني وأنا تلميذ في المدرسة كنت أتعامل مع مادة الرسم الموجودة في المنهاج بشكل جيد وباهتمام بعكس الكثير من زملائي، كذلك كنت أنجذب لعناوين الكتب التي تكتب بالخط العربي فأقوم بتقليدها وأرسمها على الكتاب نفسه، وهذا جعل مدرسة الرسم في مدرستي تنتبه لموهبتي في الخط فنصحتني بأن أذهب إلى أحد خطاطي دمشق لأتعلم فنون الخط».
ويستكمل الشعراني رحلته في عالم الذكريات «ذهبت إلى شيخ خطاطي دمشق بدوي الديراني، وكان عمري عشر سنوات، وتتلمذت على يديه لمدة خمس سنوات حتى وفاته، وبعد ذلك عملت بالخط كمهنة على الرغم من أنني كنت في المرحلة الإعدادية وأنجزت أعمالا ولوحات ولم أكن أتجرأ على وضع اسمي أو توقيعي عليها احتراما لأستاذي. اتجهت في ما بعد للبحث في المصادر التي تتحدث عن الخط العربي والفنون العربية الإسلامية من كتب وغيرها، ولفت نظري وجود أنواع من الخطوط لم تكن مستخدمة من قبل الخطاطين». هذا الاكتشاف كما يتابع الشعراني «ولّد عندي تساؤلات كبرت تدريجيا، فصرت أعمل على إحياء بعض أنواع هذه الخطوط وأكتب بها وأستخدمها في تصاميم أغلفة الكتب والمطبوعات، وقد اكتشفت من خلال البحث والمراجعة أن توقف التطور والإضافات النوعية وإهمال أنواع كثيرة من الخطوط العربية تم في العصر العثماني بعد ما شهدته في العصر العباسي من حيوية وتطور متسارع، ففي العصر العثماني تم استبعاد عائلة الخطوط الكوفية بمختلف أنواعها، وكرست أنواع معينة من الخطوط لاستخدامات معينة، فاقتصر استخدام خطي النسخ والثلث على النصوص الدينية، وكان النسخ يستخدم للمخطوطات، أما خط النستعليق ونسميه في بلاد الشام الفارسي فقنن استخدامه لكتابة الأشعار خاصة الصوفية منها، وتم اشتقاق الديواني والديواني الجلي لاستخدامهما في الفرمانات السلطانية وفي الدواوين، حيث يستخدم الديواني الجلي كترويسات للأوامر السلطانية والفرمانات، كذلك تم ابتكار خط آخر للاستخدام اليومي وهو الرقعة». ويقول الشعراني إن العثمانيين نقلوا الفنانين والمهنيين والحرفيين إلى اسطنبول ليستخدمهم السلطان سليم الأول في تطوير مشروعه الراغب من خلاله في الالتحاق بالحضارة، مما أدى في ما أدى إليه إلى تسييد أنواع معينة من الخطوط حسب الذائقة العثمانية، وأحيط الخط العربي بهالة من القدسية حبس فيها على الرغم من أن الإسلام دين ودنيا، فأنواع المخطوطات جميعها وفي الجوانب المختلفة للحضارة العربية الإسلامية كتبت بالخط العربي، إضافة إلى تجلياته الفنية المختلفة على المعادن والأخشاب والأنسجة والخزف والحجر وحتى على الدروع الحربية».
ويبتسم الشعراني متابعا ومجيبا عن سؤال آخر حول منجزاته في مجال الأعمال الفنية للخط وجمالياته «لقد توجهت منذ البداية لتطوير لوحة الخط العربي واستخدامات الخط الطباعية، حيث كنت حريصا على مسألة أخرى وهي أنه خلال العصر العثماني كله توقف الخط العربي عن التطور وتحددت الأنواع المسموح للخطاطين أن يجودوها، أما أن يجددوا فيها ويضيفوا إليها فقد كان بدعة وأمرا غير مسموح به، وقد رأيت في هذا خرقا لحتمية التطور الذي يطال جميع مناحي الحياة، فكان لا بد من تجديد الخط العربي كما هو الحال في الحياة الثقافية».
ولكن ألا ينسف هذا قواعد الخط العربي المتداولة والمتعارف عليها؟ أسأل الشعراني الذي يجيب بالنفي، موضحا أنه في أي منحى حياتي هناك قواعد متجددة فليست هناك قاعدة سرمدية «نحن لا نناقش هنا قاعدة من قواعد الكون اتفق عليها كل الناس والأجناس، بل نحن نتعامل مع شيء يتعامل به أناس يتكلمون بلغة معينة وحروف معينة، وهذه الحروف لها هيكل أساسي وهو الذي عرفناه قبل الإسلام، فالبعض يعتقد أن اللغة والحرف العربي لاحقان للإسلام، مع العلم بأن الآية الكريمة تقول (إنّا أنزلناه قرآنا عربيا)، والرسول الكريم في الغزوة الأولى قرر أن فداء الأسير من المشركين هو تعليم عشرة من صبيان المسلمين، ومعنى ذلك أن هذا الخط كفعل إنساني موجود قبل الإسلام وتطور في سياق التطور الحضاري العربي الإسلامي، والكل يعلم أن الخط في بداية بعثة الرسول الكريم لم يكن منقوطا ولا مشكولا ولم يكن يكتب بالصيغة البصرية التي نعرفها اليوم، ولأسباب مقنعة أضيفت إليه النقاط وصار معجما ومشكولا كما تم الارتقاء به جماليا».
وعن سؤال حول عمله في مجال المخطوطات يجيب الشعراني «أنا لست خطاط نصوص، فخياري الأساسي منذ البداية اللوحة، أما ما يتعلق بالمخطوطات فبرأيي أنه انتهى عهد المخطوط، حيث وصلنا إلى عصر الطباعة، وبرأيي أن وظيفة الفنان المبدع في هذا المجال في هذا العصر تقتصر على تصميم الحروف الطباعية ذات العلاقات الجمالية التي تراعي المقروئية وتنسجم مع المطبوعة جماليا ومع العناوين، وهذا ما قمت به على أغلفة الكتب التي يعتبر الخط مكونا أساسيا فيها، ويمكن أن يكون المشكل الأساسي لجمالياتها، حيث صممت أكثر من 2500 غلاف كتاب وعلى مستوى شعارات الشركات، فقد تعودت الشركات على الاستسهال واستخدام الحروف اللاتينية في شعاراتها، فعملت في تصميماتي على أن يكون الحرف العربي هو المشكل الرئيسي لشعاراتها، وقمت بتصميم أكثر من 500 شعار لشركات ومؤسسات ودور نشر».
ويضيف الشعراني «في بيروت التي عشت بها لمدة ثلاث سنوات باسم مستعار عملت في تصميم المطبوعات في المؤسسة العربية للدراسات والنشر وغيرها من دور النشر والمطبوعات، وهناك اختبرت كل أنواع الخطوط، وصممت خطوطا جديدة كان منها خط مجلة (الكرمل) الثقافية عند صدورها الأول في بيروت، وفي صدورها الثاني في قبرص. وبعد الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982 اضطررت لمغادرتها وذهبت إلى قبرص حيث عملت هناك مع الصحافة العربية ومع دور نشر عربية كانت قد انتقلت إلى هناك، ثم بعد ذلك انتقلت إلى مصر وأثناء وجودي في القاهرة عملت مع مجلة (لوتس) الثقافية الدولية كمدير فني، ثم تعاملت مع دور نشر ومؤسسات ثقافية مختلفة في بلدان عربية، ومنها مركز الموسيقى العربية والمتوسطية في تونس، حيث كتبت كل لوحات الشاخصات في المركز وفي متحف الآلات الموسيقية، ونفذت لوحات لأقسام مختلفة وذلك بالخط المغربي الذي طورته وكنت حريصا على عرض هذا الخط في مهده الأول (المغرب العربي) وكأنني أعترض المثل الشعبي القائل (أبيع ألمي بحارة السقايين)».. ويضحك الشعراني، مضيفا «لأنه إذا لم يدرك الناس هناك صلته بخطهم الذي ألفوه فمعنى ذلك أنني لم أحقق هذا الارتباط بين التراثي والحديث، وكانت النتيجة جميلة جدا بحيث أدرك كل من كان يرى المعرض أن هذا الخط هو مستمد من خط مغربي لكنه مختلف عنه من حيث الأداء والوظيفة».
وحول رأيه في الاتجاه الحروفي الذي يتبناه بعض الخطاطين والتشكيليين العرب ويعتبرونه تزاوجا ما بين الحرف والخط العربي من جهة والتشكيل من جهة ثانية، يوضح الشعراني رأيه في هذا المجال ويضحك وهو يجيب بمثل شعبي متداول، يقول «(القرعة تتغاوى بشعر جارتها).. أنا لست من مؤيدي هذا النمط ولست مع التقليدية في محاكاة ما أبدعه السلف، ولا أوافق على الضرب عرض الحائط بكل ما في تراثنا من قيم جمالية وخصوصية والذهاب إلى مكان آخر لا ينسجم من حيث التأصيل الحضاري والفكري والذهني مع هذا التراث، ولا يحق لأحد أن يهمل تراثه بزعم أنه ليس معاصرا لأن عليه أن يخلق التواؤم بين ما يمكن تطويره من القيم الجمالية الكامنة في التراث والقيم الجمالية المعاصرة وما ارتقت إليه الفنون، فالمتاحف تضم آثارا فنية من حضارات مختلفة لا يزيد التقليد من عظمتها بل يسيء إليها، ولو كنا أمينين على حضارتنا فعلينا أن ننتج امتدادات لها بعين اليوم وليس بعين الأمس، حيث أصبحت العين تتلقى بطريقة مغايرة للطريقة السالفة، وهذا يحصل في مختلف أنواع الفنون والآداب، ولا يعني أن كل من تصدى لهذا الأمر أبدع فيه، فالمبدعون هنا قلة لكنهم يفتحون آفاقا للآخرين».
إذن ما هي خصوصية وبصمات منير الشعراني في مجال فن وجماليات الخط العربي؟.. يبتسم الشعراني ويقول «قمت أولا بمعالجة بعض أنواع الخط العربي واستخراجها من بطون الوثائق والكتب والصور لإحيائها واستكمال النواقص التي أراها، حيث إنني لاحظت أن هناك أنواعا من الخطوط وصلتنا ناقصة من دون أن تكون هناك أبجدية كاملة لها، فقد كان الزمن كفيلا بفقدان كثير من الآثار، لكنه ترك بقية تكفي لترينا نموذجا معينا، لكن عندما نبحث عن الحروف المركبة بكل حالاتها لا نجدها موجودة، وبالتالي عملت على دراستها واستكمال نواقصها والإضافة إليها».
ويستغرب الشعراني كيف يهرب البعض من المبدعين إلى المعطى الإبداعي الغربي بحجة عدم وجود حداثة لدينا، ولا يعتبر العمل الذي ينقل من الغرب - وليس المستفيد بوعي من التجارب الغربية - عملا جديرا، لكنه يرى أنه يمكن التواصل بين الحضارات المختلفة لأن من متطلبات الحداثة أن يكون المبدع دارسا لكل ما سبق لكي يستطيع أن يضيف شيئا جديدا ولو كان ضئيلا في سلم الارتقاء الفني والإبداعي.