علم الآثار ودعوة المسلمين إلى حياة ما قبل الإسلام
| |
تاريخ الإضافة: 2/12/2010 ميلادي - 25/12/1431 هجري زيارة: 539
والدكتور محمد محمد حسين كما وصفه رفيقه الدكتور "محمد بن سعد بن حسين": "كان مؤمنًا صادقًا، وتقيًّا نقيًّا، ومتعففًا مترفعًا، يتناول موضوعات يتهيب منها الكثيرون أو ذات حساسية في الميادين الفكرية، يأتي بالدليل الحاسم في قوة؛ فليست بحوثه ذبذبات عاطفية تعتمد على الضجيج الخطابي، ولكنها ثمرة فكر عاقل، يؤمن بالحجة، ويعتصم بالدليل، فإذا ملأ كفَّه من الإقناع جاء بوهج العاطفة ليحدث من التأثير البالغ ما يترك هداه في قلوب من يستمعون القول فيتبعون أحسنه".
وصفه الدكتور "محمد عوضين" بالصدق والأمانة وكرم النفس وأصالة الطبع، ولُطف المعشر، وقال عنه إنه كان: "مربيا فاضلا وليس عالما فقط، يدعو بفعله قبل قوله إلى أن ينسب الفضل لأهله، وكانت بحوثه في محاربة الحركات الهدامة في عصره ضرورة حتمية يوجبها الواقع المعاصر" (موقع المعرفة).
وصفته "دار الرسالة للنشر" بأنه كان: "واحدا من النادرين الذين اشتدت حاجة الأمة إليهم، في وقت علا فيه طوفان الانبهار بالحضارة الغربية، وطغى فيه تيار العلمانية، واشتدت فيه ظلمات الجاهلية المادية، وفاح فيه لهيب سياط الدعاة إلى جهنم.... كان يصارع رموز الانهزامية الفكرية على حلبة التخصص الثقافي، قاوم الطوفان، وسبح ضد التيار، وأضاء الدرب". (مقدمة الناشر لكتاب الإسلام والحضارة الغربية 1993).
يُعَرِّف المتخصصون علم الآثار بأنه العلم الذي يدرس "كل ما خلَّفه نشاط إنساني في مكان ما خلال حقبة ما من الزمن".
يقول هؤلاء المتخصصون: "يتحرى الأثريون حياة الشعوب القديمة، وذلك بدراسة مخلفاتها. وتشمل تلك المخلفات أشياء مثل: المباني والقطع الفنية، والأدوات والعظام والخزف. وقد يقوم علماء الآثار باكتشافات مثيرة، مثل اكتشاف قبر يَغُص بالحُلِي الذهبية، أو بقايا معبد فخم في وسط الأدغال. ومع ذلك فإن اكتشاف قليل من الأدوات الحجرية أو بذور من الحبوب المتفحمة، ربما يُزيح الستار بشكل أفضل عن جوانب كثيرة من حياة تلك الشعوب. واكتشاف أنواع الأكل التي كان النّاس يتناولونها في الأزمنة الغابرة، يجعلنا ندرك أوجه الشبه بين حياة أولئك القوم وحياتنا الحالية. وما يكتشفه عالم الآثار، بدءًا من الصروح الكبيرة وانتهاء بالحبوب، يسهم في رسم صورة عن معالم الحياة في المجتمعات القديمة".
يقول الأثريون أيضًا: "علم الآثار هو ذلك العلم الذي يهتم بدراسة كل ما خلَّفه لنا الإنسان من قبيح وجميل في مكان ما خلال حقبة ما.
استخدم العالم الفرنسى "جاك سيون" في القـرن السـابع عشر لفظ "أركيولوجي Larchaeologie" للتعبير عن علم الآثار قاصدا به ذلك العلم الذي يهتم بدراسة جميع الأشكال المادية والملموسة التي تحفظ لنا آثار النشاط البشري سواء أكانت هذه الآثار جميلة أم لم يهتم الإنسان بتجميلها، ورجَّح سيون استخدام كلمة "أركيولوجي" والتي اصطلح عليها ـ فيما بعد ـ في سائر اللغات الحديثة لتنسحب على ذلك العلم الذي يهتم بدراسة الحضارات القديمة مزدهرة كانت أم مندحرة،عظيمة كانت أم بدائية، فإن كهفا أو كوخا بسيطا سكنه إنسان، أو حفرة بسيطة دُفن فيها موتاه هي أثر لنشاط كائن يدل على حضارة بعينها، كما أن قصرا أو معبدا ضخماً زُيِّن، أو مومياء حُنِّطت، أو رُصِّعت وزُيِّنت هي أيضاً أثر يدلل على حضارة أخرى بمستوى آخر في حقبة زمنية تعكس مدى التقدم الذي حققه هذا الإنسان".
مجمل القول:
"إن كل ما خلفَّه نشاط إنساني في مكان ما خلال حقبة ما من الزمن هو أثر يخضع لدراسة علم الآثار" أي أن علم الآثار هو ذلك العلم الذي يهتم بدراسة كل ما خلفه لنا الإنسان من قبيح وجميل في مكان ما خلال حقبة ما. (تعريف علم الآثار: موقع قديم).
أين مكمن الخطر إذن في علم الآثار على الإسلام؟
حدد الدكتور محمد محمد حسين مكمن الخطر في علم الآثار على الإسلام بقوله: "سعى الغرب إلى لفت انتباه المسلمين للآثار القديمة والعناية بها والغيرة عليها بعد أن كانوا لا يكترثون لها. وهو أسلوب خبيث يخفى على أكثر الناس، يتم فيه بعث التاريخ السابق على الإسلام في كل بلد من البلاد الإسلامية، والغاية التي كانت تستهدفها هذه العناية بالآثار القديمة هي تلوين الحياة المحلية في كل بلد من البلاد الإسلامية بلون خاص يستند إلى أصوله الجاهلية الأولى، وبذلك تعود الحياة الاجتماعية التي وَحَّد الإسلام مظاهرها إلى الفرقة والانشعاب، برجوعها إلى أصولها القديمة السابقة على الإسلام، فيستريح المُسْتَغِلون من احتمال تكتل المُسْتَعَبدين، ثم تكون هذه المدنيات الحديثة أكثر قبولا لأصول المدنية الغربية، ويكون كل شعب من هذه الشعوب أطوع لما يراد حمله عليه من صداقات، بعد أن تتفكك عرى الأخوة الإسلامية". (الإسلام والحضارة الغربية، ص 158).
استدل الدكتور محمد محمد حسين في تأييد وجهة نظره على الآتي:
أولا: ما ذكره المستشرق الإنجليزى (هـ. جيب) في كتابه: (إلى أين يتجه الإسلام) من أن أهم مظاهر التغريب في العالم الإسلامى تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد التي يشغلها المسلمون الآن.
يقول "جيب": " مثل هذا الاهتمام موجود في تركيا وفى مصر وفى اندونيسيا وفى العراق وفى إيران. وقد تكون أهميته محصورة الآن في تقوية شعور العداء لأوربا. ولكن من الممكن أن يلعب في المستقبل دورا مهما في تقوية القوميات المحلية وتدعيم مقوماتها).
يقول الدكتور محمد محمد حسين: "صحب هذه الدعوة نشاط البعوث الأجنبية في التنقيب عن الآثار والدعاية لما يكتشف منها وقتذاك في مصر والشام والعراق. وكان من أكبر ما طنطنوا به قبر توت عنخ آمون الذي اكتشفه اللورد كارنارفون في مصر وقتذاك" (ص 271).
ثانيا: ما ذكره الدكتور "كون" في بحث له عن ضرورة تدريب علماء الآثار المسلمين على المحافظة على الآثار القديمة.
يقول "كون": "منذ الآن يجب أن يبذل علماء الآثار الغربيون جهدا مشتركا لتدريب علماء الآثار المسلمين حتى يستطيعوا القيام بالعمل الذي يقومون به.... ويجب أن يبذل كل جهد ممكن الآن للتأكد من هذه الأبنية والأهرام والنقوش سيحافظ عليها".
ثالثا: ما ذكره الدكتور "ولسون" في بحث له يتحدث فيه عن الآتي:
1- اعتبار قيام نهضة الغرب النصراني على قواعد الأعمال الكلاسيكية الوثنية نموذجًا بمكن الأخذ به في بلاد المسلمين:
يقول "ولسون" عند حديثه عن نهضة الغرب النصراني وحركة إحياء المعارف فيه: "قامت عمليات التفكير والجدل في حركة إحياء المعارف في الغرب النصراني على الأعمال الكلاسيكية الوثنية... ونستطيع أن نعَبِّر عن ذلك بعبارة أخرى فنقول: لقد كان الغرب من الثقة بقوته الفكرية وبإيمانه الديني بحيث اتخذ أساسا له مواد تنتمي إلى عصر سابق على المسيحية ، وقد تمكن بالاعتماد على هذا الأساس القديم من أن يدرس نفسه، ويختط سبيله إلى المستقبل، فهل يصدق هذا القياس على الإسلام؟".
2- جهود الغربيين في تأسيس علم الآثار وإنشاء متاحف وطنية له في كل مكان في بلاد الإسلام وإشرافهم عليها.
يقول "ولسون": "ومنذ حوالي قرن مضى أدت عمليات التنقيب الناجحة التي قام بها "بوتا" و"لايارد" في العراق و"مارييت" في مصر و"شليمان" في تركيا إلى تأسيس مصالح للإشراف على التنقيب في الإمبراطورية العثمانية. أما في غيرها، فقد أدت عناية الغربيين وعدم اهتمام المسلمين بالآثار السابقة على الإسلام إلى وضع الإشراف في يد الغرب: مصر وإيران في يد فرنسا، الهند في يد بريطانيا، ليبيا في يد إيطاليا".
3- دور علماء الآثار في الغرب في إعداد قوانين خاصة بالآثار في البلاد الإسلامية بعد زوال الإمبراطورية العثمانية واهتمام معظم الدول الإسلامية بالحكم الذاتي.
يقول "ولسون": "إن علماء الآثار الغربيين ساعدوا في كل الدول السابقة في إعداد قانون خاص بالآثار للبلد الإسلامي الذي يعملون فيه، وأصبحوا مستشارين للموظفين الوطنيين الذين عينوا من قبل حكوماتهم كمديرين لمصالح الآثار".
4- التركيز على إعادة الأحوال الشخصية للمسلمين إلى ما كانت عليه قبل الإسلام.
يقول "ولسون": "إن في بلاد الشرقين الأدنى والأوسط في هذه الأيام نهضة حضارية، وهى - من ناحية- جديدة، ولكنها - من ناحية أخرى – بعث للقديم، ومن المأمول والمتوقع أن النهضة العربية الإسلامية ستكون تأكيدا للقيم القديمة في نطاق الأحوال الشخصية".
5- الدعوة إلى إلحاق إدارات الآثار بوزارات المعارف وخطأ إلحاقها بمصالح السياحة، لتربية الناشئة على قيم تستند إلى أساليب الحياة والفكر في الجاهليات التي قضى الإسلام على آثارها وقام على أطلالها:
يقول "ولسون": "هناك حاجة ماسة إلى توثيق الروابط بين ميدان العمل الأثري وبين البحث والتدريس في الجامعات".
رابعا: تبرع الثرى الأمريكي اليهودي الأصل وهو من غلاة الصهيونيين "روكفلر" بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للآثار الفرعونية، علاوة على تأكيده في صك الانتداب على فلسطين على إصدار قانون خاص بالآثار.
يقول الدكتور محمد محمد حسين: "هذا الاهتمام الشديد بالآثار يذكر بالنشاط المفاجئ لبعوث الآثار الأجنبية عقب الحرب العالمية الأولى، وما صحب هذا النشاط من عرض "روكفلر" المغرى المريب، فقد أعلن هذا الثرى الأمريكي وقتذاك تبرعه بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للآثار الفرعونية يلحق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفن. ويذكرنا هذا الاهتمام الجديد أيضا بالصك الذي أصدرته العصابة التي كانت تسمى وقتذاك بعصبة الأمم الذي تنص المادة الحادية والعشرون منه على " أن تضع الدولة المنتدبة وتنفذ في السنة الأولى من تاريخ تنفيذ هذا الانتداب قانونا خاصا بالآثار والعاديات". ( الإسلام والحضارة الغربية 157-160). يفسر الدكتور "محمد محمد حسين" سخاء "روكفلر" بهذا المبلغ الضخم بأنه : " يدل على ما في هذا الاتجاه من مصلحة ظاهرة للصهيونية، التي كانت حديثة العهد بالحصول على " وعد بلفور" وقتذاك. فقد كان من الواضح أن مثل هذا الوعد لا يمكن تنفيذه بإنشاء الوطن اليهودي إلا وسط هذه النعرات الإقليمية المفرقة التي تمنع تكتل العرب واجتماعهم، وهو تكتل يحول - إن تم - دون اغتصاب هذه القطعة الغالية من أرض الوطن العربي. ثم أن تطبيق هذا الاتجاه في فلسطين والاهتمام بالتاريخ السابق على استعرابها يفتح للصهيونية طريقا إلى ادعاء الحق في هذا الجزء من أرض الوطن. (ص 272)".
خامسا: نجاح تطبيقات جهود الغرب في علم الآثار على الهند والباكستان:
يقول الدكتور محمد محمد حسين: "هذا هو الدكتور "اشتياق حسين قريشي" وزير معارف الباكستان وقد كان أستاذا للتاريخ في جامعة دلهي وعميدا لكلية الآداب بها. تقرأ بحثه في أحد المؤتمرات، فتجد فيه كلاما يتحدث عن حركة الإحياء الهندي في القرن الماضي، وهى الحركة التي حولت العقل الهندي إلى مجد الهند القديم السابق على الإسلام في شتى مناحي الحياة من عمارة وتصوير وغناء ولعب وأدب. والدكتور" قريشي" ينسب نشأة التفكير في الباكستان إلى هذه الحركة التي ردت الهندي إلى قديمه الجاهلي، وتركت المسلم يحس بالغربة التي لا مفر منها إلا بالفناء والزوبان في هذه الحركة الجديدة، التي كانت تنظر إلى الفتح العربي على أنه قصة الإذلال القومي، بينما كان يعده المسلم أوج مجد أجداده. ووصف هذا العالم الباكستاني المسئول لحركة الإحياء الهندي يكاد يكون صورة مطابقة لما يحدث في مصر وفى غيرها من بلاد العالم العربي والإسلامي. وهذا التشابه وحده لا يمكن أن تسوق إليه الصدفة، وهو دليل على أن هناك خطة مدبرة وراء هذا التوافق في الأسلوب وفى الزمن" (ص 160).
هذه هي الأدلة التي ساقها الدكتور محمد محمد حسين في كتابه "الإسلام والحضارة الغربية" تثبت أن اهتمام الغرب بتأسيس علم الآثار وإنشاء متاحف قومية في بلاد الإسلام إنما يهدف إلى تلوين الحياة المحلية في هذه البلاد بلون خاص يستند إلى أصولها الجاهلية الأولى، ومن ثم تعود الحياة الاجتماعية التي وحَّد الإسلام مظاهرها إلى الفرقة والانشعاب، برجوعها إلى أصولها القديمة السابقة على الإسلام.