الآثار السورية .. ضحية مزدوجة لمطرقة الحرب وسندان النهب | الإصلاح نيوز
في القرن الثاني قبل الميلاد، كانت مدينة آفاميا على ضفاف نهر العاصي حاضرة من حاضرات منطقة حوض البحر المتوسط، فهي لم تحو خمسمائة فيل حربي وحسب، بل وجيش الحاكم السلوقي أنطيوخوس، قبل أن يعبر بجيشه هذا نهر الفرات لمحاربة البارثيين، الذي قدموا من السهول الآسيوية. وعند مولد السيد المسيح كان عدد سكان المدينة وضواحيها قد وصل إلى حوالي نصف مليون شخص. وبعد ذلك بقرن تقريباً، وفي أعقاب زلزال مدمر، ظهرت ينابيع المياه المعدنية وأنشئ شارع الأعمدة، بطول كيلومترين وعرض 40 متراً وارتفاع 20 متراً، الذي يقطع مدينة آفاميا من شمالها إلى جنوبها.
وفي القرن الثاني عشر، في خضم المعارك بين الصليبيين والأمراء العرب، تم التخلي عن المدينة بأكملها، باستثناء الحصن الأثري المقام على تلها. وعندما يرى المرء بقايا المدينة، فلن يكون بحاجة إلى صور بالكمبيوتر لتخيل عظمة المدن اليونانية والرومانية القديمة.
اليوم تقف أعمدة آفاميا في مرمى النار، إذ يظهر أحد مقاطع الفيديو دبابة فوق تل تطلق النار عبر الآثار، وقنابل تسقط في قلعة المضيق، الواقعة على الجانب الشمالي من سهل الغاب. كما يظهر المقطع أيضاً أفراد وحدة من الجيش السوري يتحصنون خلف الجدران الحجرية، التي يبلغ عمرها نحو ثلاثة آلاف عام، والتي تخللتها ثقوب الرصاصات. كما قامت الجرافات بإحداث ثغور في الجدران من أجل إتاحة المجال أمام الدبابات لإطلاق النار. وقبل ذلك تم اقتحام المتحف الذي أنشئ داخل خان أثري من العهد العثماني أسفل القلعة، وسرقة لوحات فسيفساء من العصر الروماني. لقد باتت آفاميا ملكاً للقناصة ولسوق الآثار السوداء.
لا حياة لمن تنادي
الآثار في خطر...هناك روايات تقول بأن الجنود السوريين استغلوا مظاهرة سلمية لاحتلال قلعة الحصن التي تعتبر أشهر الحصون المشيدة في العصور الوسطى إلى جانب برج لندن. تعتبر الحروب الأهلية دائماً كارثة ثقافية، لأنها تحول حياة البلاد بكل أوجهها إلى ساحة قتال، بما فيها أماكن العبادة والمتاحف والآثار وحتى المقابر. وبالنسبة لسوريا، فإن الحرب الأهلية أصابت بلداً لم تعرف أهميته في تاريخ الحضارة الإنسانية إلا قبل عقود قليلة. فمنذ ثلاثينات القرن الماضي فقط تجري أعمال التنقيب في التل الذي أقيمت عليه مدينة ماري السومرية، ومنذ الستينات في مدينة إيبلا، التي ازدهرت بين الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد، ومنذ حوالي ثمانين عاماً يعرف علماء الآثار تفاصيل أدق حول مدن الموتى في سلسلة الجبال الجيرية شمال سوريا، والمدرجة على قائمة التراث العالمي بسبب الطراز المعماري لكنائسها، الذي يعود إلى أواخر العصور القديمة. ومنذ سنة 1930 تم الكشف عن مدينة أوغاريت، التي يعود تأسيسها إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والتي ظهرت فيها أولى الأبجديات.
لقد ذاع صيت آشور وبابل وطروادة والأقصر بينما كانت الآثار السورية مدفونة تحت الأرض، وهذا السبق استمر حتى اليوم، فمعظم من يقابلهم المرء زاروا إما لبدة الكبرى أو وادي الملوك مرة على الأقل، ونادراً ما يصادف من زار آفاميا أو شاهد واجهة قلعة قصر الحير الغربي في البادية السورية، التي تعود إلى العصر الإسلامي المبكر، رغم أن تلك الآثار ليست أقل أهمية من تلك المذكورة سابقاً.
ولهذا السبب أيضاً لم تترسخ كارثة الكنوز الثقافية السورية بعد في العقول الغربية، إذ منذ الصيف الماضي والمعارك تدور في سوريا، ومنذ شهور توجد تقارير على صفحات الإنترنت حول تدمير ونهب مواقع أثرية محمية. لكن الصرخة ضد هذه البربرية لم تلق آذاناً صاغية حتى الآن. ومنذ منتصف مايو يوجد تقرير مفصل، قامت بإعداده إيما كونليف، التي تعمل في صندوق التراث العالمي، حول أوضاع المواقع الأثرية في سوريا.
الآثار السورية دون حماية
التدمير الذي طال الاحياء القديمة في حمص...آلة عسكرية لا ترحم البشر ولا الحجر الخلاصة التي خرج بها تقرير كونليف صاعقة، إذ لا يوجد أي موقع أثري، بدءاً بالحفريات في تل حلف قرب تركيا، وانتهاءاً بالمباني الأثرية من أواخر العصر الروماني وبدايات العصر الإسلامي في حوران على الحدود الأردنية، يمكن للمديرية العامة للمتاحف والآثار السورية حمايته من التدمير. فالمتاحف يتم نهبها، والتماثيل الذهبية والأسلحة البرونزية يتم تهريبها، وثقوب القنابل والرصاص تتخلل المساجد والكنائس، والكتل الأثرية تستخدم في حواجز الطرق. كما تم تدمير جزء كبير من البلدة القديمة بمدينة حمص، التي كانت مسرحاً لمجزرة سنة 1982، مثلها مثل المسجد العمري في درعا، الذي تعود أساساته إلى عهد الخلفاء الراشدين. أما في مدينة بصرى الأثرية، التي تعود إلى العصر النبطي، والتي كانت في السابق مقراً للفيلق الروماني الثالث، فتروح الدبابات وتجيء في الشوارع. والدير الأثري في بلدة دير سنبل تحول إلى ثكنة عسكرية. قائمة الخسائر طويلة، ويضاف إليها المزيد كل شهر، إذ لم تعد هناك سلطات مدنية قادرة على منع المزيد من الخسائر.
الثروة الثقافية في سوريا مرتبطة بموقعها الجغرافي، فمنذ أربعة آلاف عام، ومنذ بدء حضارة بلاد الرافدين حتى دخول الإسلام، شكلت سوريا تقاطعاً لنفوذ الحضارات المختلفة، من سومريين وبابليين ومصريين وآشوريين وحتيين وفرس ويونانيين وروم. وتعتبر مدينة تدمر الصحراوية رمز بوتقة انصهار التاريخ الإنساني في سوريا. ففي هذه المدينة اجتمع الطراز المعماري البارثي مع الطرازين الرومي والهليني، لينتج طرازاً فريداً من نوعه. كما أن أمجاد تدمر لم تخبو إلا مع العصور الوسطى، إلى أن قام مسافرون إنجليز بإعادة اكتشاف المدينة في القرن الثامن عشر.
"اليوم تقف أعمدة آفاميا في مرمى النار، إذ يظهر أحد مقاطع الفيديو دبابة فوق تل تطلق النار عبر الآثار، وقنابل تسقط في قلعة المضيق، الواقعة على الجانب الشمالي من سهل الغاب" في السابق كان تدمر تعج بالسياح كل صيف وخريف، أما الآن فهي خاوية على عروشها. مدن الموتى في وادي القبور، والتي كانت هدفاً للصوص منذ أواخر العصور القديمة، نهبت مراراً وتكراراً. وفي قلعة المماليك، التي شيّدت في القرن الثالث عشر لحماية الواحة من غارات الصليبيين، يتمركز جنود نظام الأسد الآن، والذين يطلقون النار على كل ما يتحرك في المدينة الأثرية، حسب ما يقال. أما الشارع المستقيم المحفوف بالأعمدة الكورنثية، وقوس النصر المعروف بقوس هادريان، والجدار المحيط بمعبد بل، فكلها تحوي ثقوباً أحدثتها الرصاصات. وفي الليل يحاول لصوص المقابر انتزاع كل ما يمكن انتزاعه من آثار، حتى تطردهم نيران البنادق مجدداً.
كما في آفاميا وتدمر، قامت القوات الحكومية باستخدام مواقع أثرية أخرى لنصب أسلحتها. وهناك عدة روايات لما يحدث حالياً في قلعة الحصن، التي تعتبر أشهر الحصون المشيدة في العصور الوسطى إلى جانب برج لندن. الرواية الرسمية تقول إن "عصابات مسلحة" منعت دخول القيّمين على القلعة كي ينهبوها دون إعاقة. روايات أخرى تقول بأن الجنود استغلوا مظاهرة سلمية لاحتلال القلعة. وإضافة إلى قلعة الحصن، تم احتلال قلعتي المرقب وشميميس بنفس الطريقة. وإذا ما تمكنت المعارضة السورية المسلحة من الحصول على أسلحة ثقيلة، يمكن تصور ما سيحلّ بقلعة الحصن، المدرجة على قائمة التراث العالمي، والمواقع الأثرية الأخرى.
نهاية حقبة بحث في سوريا
مدينة تدمر الصحراوية التي تعد رمز بوتقة انصهار التاريخ الإنساني في سوريا أضحت هدفا للنهب والسلب حال المتاحف السورية ليس بأفضل من ذلك، فالكثير منها يقع في وسط مناطق القتال، مثل متحف إدلب، الذي يضم أجزاء كبيرة من الألواح الفخارية الثمينة المستخرجة من مدينة إيبلا، أو المنازل القديمة في حماة ودير الزور والسويداء. وفي يوليو سنة 2011 أصدرت حكومة الأسد مذكرة تحذر من شبكات إجرامية لسرقة الآثار مزودة بأحدث التقنيات وتعمل في سوريا. ومنذ ذلك الوقت تم وضع القطع الفنية الثمينة من متاحف دمشق وحلب في خزنة بالبنك المركزي السوري. أما بقية الأعمال الفنية فبقيت دون حماية من اللصوص. وكما كان الوضع في العراق، فإن العديد من الموجودات الأثرية في سوريا لم يتم تصنيفها وتصويرها بانتظام، الأمر الذي يسهل على اللصوص بيع ما سرقوه في السوق الدولية. وفي ألمانيا يصعّب القانون تسجيل حالات السرقة الفنية، إذ بالرغم من توقيع ألمانيا قبل خمس سنوات على معاهدة اليونسكو لحماية الإرث الثقافي، إلا أن القطع "التي لا يمكن إثبات أصلها" لا تزال معفاة من أي تصريح قبل بيعها.
لقد زارت كارين بارتل، مديرة مكتب المعهد الألماني لعلوم الآثار في دمشق، سوريا أثناء شهر ديسمر الماضي، وروى لها الكثير من زملائها المحليين أنهم اضطروا للفرار إلى عائلاتهم في الريف، بسبب اندلاع معارك بالأسلحة النارية في مركز الحفريات التابع للمعهد في حماة شهر أغسطس الماضي. وقبل فترة وجيزة قامت بارتل بإلقاء نظرة على المركز من الجو، من خلال برنامج "غوغل إيرث"، مضيفة أن "المركز يبدو وكأنه لا يزال قائماً. لكن إذا استمرت المعارك فيمكن أن نتصور كيف سيكون المكان بعد عام أو اثنين". وبالنسبة للخبيرة في تاريخ الفن، فإن حقبة من الأبحاث الأثرية قد انتهت مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، معتبرة أن "سوريا التي عرفناها لن تعود إلى ما كانت عليه".
أندرياس كيلب
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: فرانكفورتر الجمانية تسايتوتغ & قنطرة 2012
الآثار السورية في ظل الثورة الشعبية:الآثار السورية .. ضحية مزدوجة لمطرقة الحرب وسندان النهب
إلى جانب قتل البشر في سوريا، فإن جذور الثقافة الأوروبية تقتل هناك أيضاً، إذ تتعرض المواقع الأثرية القديمة التي تعود إلى العصور البيزنطية والوسطى للقصف دون أي مراعاة. كما يتم نهب المتاحف وبيع القطع الفنية، حسب ما يكتب أندرياس كيلب.
في القرن الثاني قبل الميلاد، كانت مدينة آفاميا على ضفاف نهر العاصي حاضرة من حاضرات منطقة حوض البحر المتوسط، فهي لم تحو خمسمائة فيل حربي وحسب، بل وجيش الحاكم السلوقي أنطيوخوس، قبل أن يعبر بجيشه هذا نهر الفرات لمحاربة البارثيين، الذي قدموا من السهول الآسيوية. وعند مولد السيد المسيح كان عدد سكان المدينة وضواحيها قد وصل إلى حوالي نصف مليون شخص. وبعد ذلك بقرن تقريباً، وفي أعقاب زلزال مدمر، ظهرت ينابيع المياه المعدنية وأنشئ شارع الأعمدة، بطول كيلومترين وعرض 40 متراً وارتفاع 20 متراً، الذي يقطع مدينة آفاميا من شمالها إلى جنوبها.
وفي القرن الثاني عشر، في خضم المعارك بين الصليبيين والأمراء العرب، تم التخلي عن المدينة بأكملها، باستثناء الحصن الأثري المقام على تلها. وعندما يرى المرء بقايا المدينة، فلن يكون بحاجة إلى صور بالكمبيوتر لتخيل عظمة المدن اليونانية والرومانية القديمة.
اليوم تقف أعمدة آفاميا في مرمى النار، إذ يظهر أحد مقاطع الفيديو دبابة فوق تل تطلق النار عبر الآثار، وقنابل تسقط في قلعة المضيق، الواقعة على الجانب الشمالي من سهل الغاب. كما يظهر المقطع أيضاً أفراد وحدة من الجيش السوري يتحصنون خلف الجدران الحجرية، التي يبلغ عمرها نحو ثلاثة آلاف عام، والتي تخللتها ثقوب الرصاصات. كما قامت الجرافات بإحداث ثغور في الجدران من أجل إتاحة المجال أمام الدبابات لإطلاق النار. وقبل ذلك تم اقتحام المتحف الذي أنشئ داخل خان أثري من العهد العثماني أسفل القلعة، وسرقة لوحات فسيفساء من العصر الروماني. لقد باتت آفاميا ملكاً للقناصة ولسوق الآثار السوداء.
لا حياة لمن تنادي
الآثار في خطر...هناك روايات تقول بأن الجنود السوريين استغلوا مظاهرة سلمية لاحتلال قلعة الحصن التي تعتبر أشهر الحصون المشيدة في العصور الوسطى إلى جانب برج لندن. تعتبر الحروب الأهلية دائماً كارثة ثقافية، لأنها تحول حياة البلاد بكل أوجهها إلى ساحة قتال، بما فيها أماكن العبادة والمتاحف والآثار وحتى المقابر. وبالنسبة لسوريا، فإن الحرب الأهلية أصابت بلداً لم تعرف أهميته في تاريخ الحضارة الإنسانية إلا قبل عقود قليلة. فمنذ ثلاثينات القرن الماضي فقط تجري أعمال التنقيب في التل الذي أقيمت عليه مدينة ماري السومرية، ومنذ الستينات في مدينة إيبلا، التي ازدهرت بين الألفية الثالثة والثانية قبل الميلاد، ومنذ حوالي ثمانين عاماً يعرف علماء الآثار تفاصيل أدق حول مدن الموتى في سلسلة الجبال الجيرية شمال سوريا، والمدرجة على قائمة التراث العالمي بسبب الطراز المعماري لكنائسها، الذي يعود إلى أواخر العصور القديمة. ومنذ سنة 1930 تم الكشف عن مدينة أوغاريت، التي يعود تأسيسها إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، والتي ظهرت فيها أولى الأبجديات.
لقد ذاع صيت آشور وبابل وطروادة والأقصر بينما كانت الآثار السورية مدفونة تحت الأرض، وهذا السبق استمر حتى اليوم، فمعظم من يقابلهم المرء زاروا إما لبدة الكبرى أو وادي الملوك مرة على الأقل، ونادراً ما يصادف من زار آفاميا أو شاهد واجهة قلعة قصر الحير الغربي في البادية السورية، التي تعود إلى العصر الإسلامي المبكر، رغم أن تلك الآثار ليست أقل أهمية من تلك المذكورة سابقاً.
ولهذا السبب أيضاً لم تترسخ كارثة الكنوز الثقافية السورية بعد في العقول الغربية، إذ منذ الصيف الماضي والمعارك تدور في سوريا، ومنذ شهور توجد تقارير على صفحات الإنترنت حول تدمير ونهب مواقع أثرية محمية. لكن الصرخة ضد هذه البربرية لم تلق آذاناً صاغية حتى الآن. ومنذ منتصف مايو يوجد تقرير مفصل، قامت بإعداده إيما كونليف، التي تعمل في صندوق التراث العالمي، حول أوضاع المواقع الأثرية في سوريا.
الآثار السورية دون حماية
التدمير الذي طال الاحياء القديمة في حمص...آلة عسكرية لا ترحم البشر ولا الحجر الخلاصة التي خرج بها تقرير كونليف صاعقة، إذ لا يوجد أي موقع أثري، بدءاً بالحفريات في تل حلف قرب تركيا، وانتهاءاً بالمباني الأثرية من أواخر العصر الروماني وبدايات العصر الإسلامي في حوران على الحدود الأردنية، يمكن للمديرية العامة للمتاحف والآثار السورية حمايته من التدمير. فالمتاحف يتم نهبها، والتماثيل الذهبية والأسلحة البرونزية يتم تهريبها، وثقوب القنابل والرصاص تتخلل المساجد والكنائس، والكتل الأثرية تستخدم في حواجز الطرق. كما تم تدمير جزء كبير من البلدة القديمة بمدينة حمص، التي كانت مسرحاً لمجزرة سنة 1982، مثلها مثل المسجد العمري في درعا، الذي تعود أساساته إلى عهد الخلفاء الراشدين. أما في مدينة بصرى الأثرية، التي تعود إلى العصر النبطي، والتي كانت في السابق مقراً للفيلق الروماني الثالث، فتروح الدبابات وتجيء في الشوارع. والدير الأثري في بلدة دير سنبل تحول إلى ثكنة عسكرية. قائمة الخسائر طويلة، ويضاف إليها المزيد كل شهر، إذ لم تعد هناك سلطات مدنية قادرة على منع المزيد من الخسائر.
الثروة الثقافية في سوريا مرتبطة بموقعها الجغرافي، فمنذ أربعة آلاف عام، ومنذ بدء حضارة بلاد الرافدين حتى دخول الإسلام، شكلت سوريا تقاطعاً لنفوذ الحضارات المختلفة، من سومريين وبابليين ومصريين وآشوريين وحتيين وفرس ويونانيين وروم. وتعتبر مدينة تدمر الصحراوية رمز بوتقة انصهار التاريخ الإنساني في سوريا. ففي هذه المدينة اجتمع الطراز المعماري البارثي مع الطرازين الرومي والهليني، لينتج طرازاً فريداً من نوعه. كما أن أمجاد تدمر لم تخبو إلا مع العصور الوسطى، إلى أن قام مسافرون إنجليز بإعادة اكتشاف المدينة في القرن الثامن عشر.
"اليوم تقف أعمدة آفاميا في مرمى النار، إذ يظهر أحد مقاطع الفيديو دبابة فوق تل تطلق النار عبر الآثار، وقنابل تسقط في قلعة المضيق، الواقعة على الجانب الشمالي من سهل الغاب" في السابق كان تدمر تعج بالسياح كل صيف وخريف، أما الآن فهي خاوية على عروشها. مدن الموتى في وادي القبور، والتي كانت هدفاً للصوص منذ أواخر العصور القديمة، نهبت مراراً وتكراراً. وفي قلعة المماليك، التي شيّدت في القرن الثالث عشر لحماية الواحة من غارات الصليبيين، يتمركز جنود نظام الأسد الآن، والذين يطلقون النار على كل ما يتحرك في المدينة الأثرية، حسب ما يقال. أما الشارع المستقيم المحفوف بالأعمدة الكورنثية، وقوس النصر المعروف بقوس هادريان، والجدار المحيط بمعبد بل، فكلها تحوي ثقوباً أحدثتها الرصاصات. وفي الليل يحاول لصوص المقابر انتزاع كل ما يمكن انتزاعه من آثار، حتى تطردهم نيران البنادق مجدداً.
كما في آفاميا وتدمر، قامت القوات الحكومية باستخدام مواقع أثرية أخرى لنصب أسلحتها. وهناك عدة روايات لما يحدث حالياً في قلعة الحصن، التي تعتبر أشهر الحصون المشيدة في العصور الوسطى إلى جانب برج لندن. الرواية الرسمية تقول إن "عصابات مسلحة" منعت دخول القيّمين على القلعة كي ينهبوها دون إعاقة. روايات أخرى تقول بأن الجنود استغلوا مظاهرة سلمية لاحتلال القلعة. وإضافة إلى قلعة الحصن، تم احتلال قلعتي المرقب وشميميس بنفس الطريقة. وإذا ما تمكنت المعارضة السورية المسلحة من الحصول على أسلحة ثقيلة، يمكن تصور ما سيحلّ بقلعة الحصن، المدرجة على قائمة التراث العالمي، والمواقع الأثرية الأخرى.
نهاية حقبة بحث في سوريا
مدينة تدمر الصحراوية التي تعد رمز بوتقة انصهار التاريخ الإنساني في سوريا أضحت هدفا للنهب والسلب حال المتاحف السورية ليس بأفضل من ذلك، فالكثير منها يقع في وسط مناطق القتال، مثل متحف إدلب، الذي يضم أجزاء كبيرة من الألواح الفخارية الثمينة المستخرجة من مدينة إيبلا، أو المنازل القديمة في حماة ودير الزور والسويداء. وفي يوليو سنة 2011 أصدرت حكومة الأسد مذكرة تحذر من شبكات إجرامية لسرقة الآثار مزودة بأحدث التقنيات وتعمل في سوريا. ومنذ ذلك الوقت تم وضع القطع الفنية الثمينة من متاحف دمشق وحلب في خزنة بالبنك المركزي السوري. أما بقية الأعمال الفنية فبقيت دون حماية من اللصوص. وكما كان الوضع في العراق، فإن العديد من الموجودات الأثرية في سوريا لم يتم تصنيفها وتصويرها بانتظام، الأمر الذي يسهل على اللصوص بيع ما سرقوه في السوق الدولية. وفي ألمانيا يصعّب القانون تسجيل حالات السرقة الفنية، إذ بالرغم من توقيع ألمانيا قبل خمس سنوات على معاهدة اليونسكو لحماية الإرث الثقافي، إلا أن القطع "التي لا يمكن إثبات أصلها" لا تزال معفاة من أي تصريح قبل بيعها.
لقد زارت كارين بارتل، مديرة مكتب المعهد الألماني لعلوم الآثار في دمشق، سوريا أثناء شهر ديسمر الماضي، وروى لها الكثير من زملائها المحليين أنهم اضطروا للفرار إلى عائلاتهم في الريف، بسبب اندلاع معارك بالأسلحة النارية في مركز الحفريات التابع للمعهد في حماة شهر أغسطس الماضي. وقبل فترة وجيزة قامت بارتل بإلقاء نظرة على المركز من الجو، من خلال برنامج "غوغل إيرث"، مضيفة أن "المركز يبدو وكأنه لا يزال قائماً. لكن إذا استمرت المعارك فيمكن أن نتصور كيف سيكون المكان بعد عام أو اثنين". وبالنسبة للخبيرة في تاريخ الفن، فإن حقبة من الأبحاث الأثرية قد انتهت مع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، معتبرة أن "سوريا التي عرفناها لن تعود إلى ما كانت عليه".
أندرياس كيلب
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: فرانكفورتر الجمانية تسايتوتغ & قنطرة 2012