فن الخط الإسلامي مهدد بالاندثار في الهند
الخطاطون حالتهم ليست أفضل من الشحاذين.. ودلهي تضم أكثر من 5000 منهم
نيودلهي: براكريتي غوبتا
في الوقت الذي يشهد فيه فن الخط الإسلامي موتا بطيئا في الهند، ثمة قليلون ممن يحاولون إحياءه من خلال أعمالهم الفنية. وهذا الفن الذي نادرا ما تم إبرازه في المشهد الفني المعاصر (الفن الإسلامي)، الذي يعد مجرد تجسيد لفن الخط والتصميمات المعمارية، ظهر من خلال أعمال محمد تبريز علام التي تجمع بين الطابع الإسلامي التقليدي والطابع التجريدي.
وتعتبر أعمال علام الفنية الثلاثة والثلاثون المعروضة حاليا في معرض للفنون في دلهي انعكاسا للإسلام وقيمه الثقافية، وتجسيدا للمعالم الأثرية والقبلة (الوجهة التي يتجه إليها المسلمون في صلواتهم).
تلقى علام التدريب على يد شمشاد حسين، الفنان المعروف وابن الرسام الراحل، مقبول فدا حسين، الذي يعد أيقونة في تاريخ الفن الهندي والذي رحل عن عالمنا منذ بضعة أعوام مضت. يقول علام «لقد تطور هذا النوع من الفن بقوة في العصور الوسطى. وقد أخذت على عاتقي مهمة تنفيذ هذا المشروع لمساعدة عامة الناس والفنانين في التواصل مع هذا الجانب من الثقافة الإسلامية».
لكن هذا النوع من الفنون الجميلة التي تحظى بالإعجاب على نطاق واسع بسبب جمالها الأخاذ والمهارة والإبداع المطلوبين من الفنان مهدد بالاندثار في الهند، نظرا لعدم وجود كم كبير من الأعمال لأكثر من 30.000 خطاط. ويشكو أنيس صديقي، أحد كبار الخطاطين ومعلم ومدير اتحاد خطاطي نيودلهي، من أن أوضاع الخطاطين الهنود ليست أفضل حالا من الشحاذين، فكثيرون منهم يحصلون على قوت يومهم من خلال الالتحاق بالمدارس الإسلامية، حيث يحصلون على الطعام مجانا. وتضم دلهي وحدها أكثر من 5.000 خطاط أوردي وعربي وفارسي.
إن الجمال الأخاذ للحروف الأبجدية والتصميمات المنقوشة على الورق التي يبدو شكلها أشبه بجواهر للوهلة الأولى يخلب الأبصار. فعندما يبدأ حيدر جعفري، الذي يحمل أداتين متواضعتين، وهما قصبة وحبر، في الكتابة، يحيل الحروف إلى جواهر متلألئة. إن جعفري هو أستاذ فن الخط، فن الكتابة اليدوية الإسلامي المبهر. ويتفوق جعفري، الذي يخط روائع على الورق والأحجار، على غيره من الخطاطين الآخرين بوصفه فنانا في الكتابة بخط الطغراء. والطغراء هو عبارة عن رموز أو تصميمات بخط اليد تجسد أسماء الله الحسنى أو اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو الأئمة الذين يوقرهم المسلمون.
وهذا الخطاط الماهر يدرك أن اندثار فن الكتابة بخط اليد بات وشيكا، لكن ذلك لم يؤثر على عشقه لهذا الفن. فهو يحمل مجموعته النفيسة في حقيبة تتدلى من على دراجته ويفتحها ليكشف عن مجموعة نادرة من التصميمات بالخط العربي. وتتجلى تأثيرات أعمال جعفري اليدوية البارعة في مساجد دلهي. وربما يتطلب استكمال نموذج واحد لمخطوطة بالخط العربي أو الطغراء ما بين أسبوع إلى ثلاثة أشهر. ونظرا للجهد الشاق المبذول ومهارات الفنان، تتراوح تكلفة القطعة الواحدة بين 2000 و5000 روبية. وعلى الرغم من أن هؤلاء الفنانين ما زال لهم معجبون كثر، فإن عدد مشتري مثل هذه الأعمال الفنية قد تضاءل. ويشترك جعفري في موهبة الكتابة بخط الطغراء مع الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف ونجمي بوليوود فاروق الشيخ ورازا مراد، على سبيل المثال لا الحصر. ويقول المؤرخ سيد أنور عباس إن لكناو ودلهي وحيدر آباد كانت هي المراكز الثلاثة الرئيسية لفن الخط في الهند. وقد ازدهر هذا النوع من الكتابة في بلاط المغول، وكان مستخدما في إصدار الأوامر من قبل البلاط الملكي وفي العملات وغيرها من الوثائق الأخرى. وتطور في الهند 30 نوعا مختلفا من فن الخط باللغات العربية والأوردية والفارسية. ويتألق تاج محل بالنقوش المكتوبة بخط الثلث. أما معلم قطب مينار الشهير فبه نقوش بخط النسخ (المنحوت على الأحجار). ومن أشهر النقوش الكتابية الأخرى، خط الزلفي وخط الأوروس وخط البيهاري وخط النستعليق.
بيد أنه لم تعد القصبة أداة مقدسة بالنسبة للخطاطين الأورديين في مكاتب الصحف الأوردية «راشتريا سهارا» و«سياسات» و«انقلاب» و«كوامي أواز» و«ناي دونيا»، حيث حلت التكنولوجيا الحديثة محل أدوات الكتابة التقليدية.
وفي عهد ليس ببعيد، كانت هناك صحف ومجلات تكتب بخط اليد الخلاب. وفي كل مرة كان يقرب فيها فنان قلمه من ورقة، كان يصوغ حرفا طباعيا أنيقا له شكله الفريد وانحناءاته المميزة، كان يبدو نابضا بالحياة إلى أقصى درجة، لكن كثيرا من الخطاطين قد فقدوا وظائفهم الآن.
ويرى الخطاط والشاعر البارز قيس رامبوري أن الحوسبة ستقضي على معظم جوانب حياتنا. وبالضرورة لن تروق التقنيات الحديثة للخطاطين التقليديين. المشكلة لدى هؤلاء الخطاطين هي أن معظمهم ينحدر من بيئة المدارس الإسلامية القديمة ولا يمكنه مواكبة أحدث أدوات إنشاء الصفحات. غير أن بعضهم يستخدم أجهزة الكومبيوتر. ويبدو أن فن الخط القديم يمر بمراحل تغيير. وقال قطيب عبد الله بقافي، أحد فناني الخط المحنكين «النص مهم جدا بالنسبة لنا. وفن الخط يساعد في مزج الأحرف وأصواتها، باستخدام أقل مساحة ممكنة». إن كتابة اللغة العربية والتصميمات التي توفرها أجهزة الكومبيوتر الآن قد أجبرت الفنانين على الابتكار أيضا. «علينا أن نواكب التكنولوجيا الحديثة»، هذا ما قاله بقافي وهو يحرك يديه على لوحة مفاتيح جهاز الكومبيوتر بينما يصمم قطعة زخرفية بأحرف عربية أشبه بالجواهر، تشكل آيات من القرآن الكريم.
ويعتبر مصممو كروت حفلات الزفاف من أبرز زبائنهم. يقول محمد إقبال من «أوليمبيك كاردس»: «يرغب كثيرون في مشاهدة آيات قرآنية أو نصوص من الإنجيل مكتوبة على كروتهم. وعادة ما تكون النسخ المحفوظة من هذه النصوص على الكومبيوتر غير متاحة، كما لا تحمل القوالب الحالية أي علامات ترقيم. لذلك، عادة ما يكون الخطاطون مقيدين».
في الوقت نفسه، تعد الحكومة الهندية مخططا أوليا للترويج لفن الخط والمعمار الإسلامي الذي بات على وشك الاندثار، والذي كان يحظى بشهرة واسعة النطاق في ما مضى، لكنه لم يعد معروفا الآن أو لم تعد حتى تتم دراسته من قبل غالبية المسلمين الهنود.
وقال فنان خط آخر يدعى أغا محمد حسن، أحد أبرع فناني الخط الذين ما زالوا على قيد الحياة «حتى مع رواج أجهزة الكومبيوتر، كانت الكثير من الصحف والمجلات تستعين بخدمات الخطاطين». وهو يلقي باللوم في انهيار مكانة فن الخط على النظام الاقتصادي والتكنولوجيا. ويضيف «التصميمات التي يوفرها استخدام أجهزة الكومبيوتر لا تضاهي روعة كلمات الخطاطين الأنيقة المفعمة بالحيوية». وبالنظر إلى تضاؤل مكانة الخطاطين، حقق حسن ابتكارا. «من عام 2001، بدأت كتابة نقوش على الأحجار المستخدمة في المنازل. وقد ساعدني هذا في تخليد هذا الفن، كما أدر علي ربحا أيضا»، هكذا يقول حسن، الخطاط المحنك.
كان الخطاطون الإسلاميون في الهند يحظون برعاية الأباطرة والملوك، كما كانوا يحظون بمكانة رفيعة إبان عصر المغول. ووردت مقولة على لسان الإمبراطور المغولي جلال الدين أكبر في سيرته الذاتية التي تحمل عنوان «عين أكبري»، يتوجه فيها بحديثه إلى الخطاطين في بلاطه الملكي قائلا لهم «هيا افعلوا بقلمكم ما كان يتم فعله في أوقات أخرى بالسيف!». وقد كان لفن الخط العربي ممارسوه من البلاط الملكي، من بينهم الملك المغولي أورنغزيب وأميرة راجبوت الهندية جودهاباي التي كانت بارعة في هذا الفن.
وفي الهند الحديثة أيضا، هناك كثير من النساء الهنديات اللائي لعبن دورا مهما في الحفاظ على هذا الفن من الاندثار. وفي مكتب صحيفة «مسلمان» (صحيفة أوردية مكتوبة بخط اليد) المزدحم، وسط الماكينات المصمتة، تخط شابانا بيجوم أعمالها الفنية من دون كلل باستخدام أداتين متواضعتين - هما قصبة وحبر - على ورقة بها قطع من القصاصات الملونة تشير إلى أماكن وضع الإعلانات. ويبدو انثناء الأحرف وانحناءاتها مثاليا، بينما تغمس ريشتها في إناء من الحبر بشكل متكرر، محركة أناملها برقة. لكن هناك فنانات قليلات على شاكلة دولت جاهان، خطاطة بمؤسسة «مورثوفازيا فاونديشن»، ممن كن يعملن على إحياء هذا الفن وتدريب جيل الشباب عليه. وهي تعمل منذ نحو 20 عاما الآن على نقل مهارتها الفنية للجيل الجديد. وتقول «الأمر يتطلب كثيرا من الصبر والتركيز. إنك تكتب الحرف نفسها لمدة 10 أيام حتى تبدأ عيناك في التمييز بين الحرف المنمق والآخر غير المصقول نوعا ما. وتقول جاهان «تعلمت هذا الفن في الوقت الذي لم تكن فيه أكثر الأسر ثراء تعلم بناتها سوى إلى أن يتمكن من قراءة الأحرف فحسب. لكن حينما توفي زوجي بعد سنوات قليلة من زواجنا، بات عشقي لهذا الفن مصدرا للدخل بالنسبة لي».
ولا يستمر كل عاشق للفن في ممارسته كمهنة، هكذا تقول جاهان. وتضيف قائلة «فن الخط ليس مجرد جرات قلم متتابعة، وإنما تتجلى روعته في تناغم الحروف. وفي المقام الأول، تكشف طريقة كتابتك للأحرف الكثير عن شخصيتك».
وتعتبر نجمة صالح خبيرة في علم الخط العربي، حيث تقوم بكتابة آيات من القرآن الكريم. وقد عمدت نجمة إلى استخدام مواد مختلفة في أعمالها الفنية، من بينها الأكريليك وألوان الماء والخيوط والأحجار. وقد أقامت أول معارضها الفنية منذ بضع سنوات. وفتنتها فكرة حركة الفرشاة المؤدية إلى تشكيل حرف عربي وشجعتها على تبني هذا النمط من الفنون. وتشكل الأجزاء المكتوبة من الكتب المقدسة على خلفيات ملونة تحفا فنية رائعة تحيط بها هالة روحانية.
بالمثل، تقول أمينة أحمد أهوجا، فنانة الخط العربي الحديث، إن قليلين فقط هم من يعرفون أن الهند تضم أبرز الأمثلة على فن الخط باللغات العربية والفارسية والأوردية.