| |||||
|
يستعيد المؤلف في كتابه الصادر عن منشورات وزارة الثقافة السورية، واحدة من المهن التقليدية العريقة، والتي ربما انقرضت في أيامنا هذه، وهي حرفة “المجلّخ” وتعكس اسما لمن تثلّم من السكاكين والأمواس والمقاريض والمقاريض ونحوها، والاسم منحوت من الفصحى: جلخ وجلّخ الموسى أي أرهفه وحددّه وصقله. وحول المجلّخ ذكر القاسمي المتوفى عام 1900: “هو من يصلح ما تثلّم من السكاكين بواسطة دولاب يعرف بـ”الجلخ” وهو مركب من ثلاثة عواميد”. وكان نداء المجلّخ في دمشق: (مجلخ سكاكين، مجلخ مواس، مجلخ مقصات) وهذا النداء واضح مفهوم لا يحتاج لأي شرح، أما كلمة مواس، فهي لفظة عامية مختصرة من أمواس ومفردها موس، وهي السكين الصغيرة التي تطوى، وبالعامية اللبنانية (عويسية).
من طرائف هذا الكتاب ما وثقه المؤلف حول مهنة (مرقّص الدب والسعدان) وقال: “منذ عهد بعيد وحتى الخمسينات من القرن الماضي كانت قلّة من الغجر، أو المتعيشين يفدون على أزقة دمشق بصحبة (دبّ) مدرب على إطاعة الأوامر والرقص على إيقاع دفّ كبير ومزمار بحركات (دببية) محدودة بطيئة ثقيلة. أما حركات القرد أو السعدان فأكثر تنوعا ورشاقة واضحاكا للجمهور من حركات الدب، فهو (يتشقلب) ويطير في الهواء، ويضطجع وينام مقلدا الشخصيات يطلب منه المدرب أو (السعدنجي) أن يحاكيها ويقول له (شلون ـ كيف ـ بتعجن الصبية، شلون بتنام العجوز ، شلون بتفيق العروس؟ شلون بيمشي العريس صباحية عرسه؟ وشلون بيصالح حماته؟) وهكذا، وكل ذلك يتم في حلقة في أحد الشوارع، أو المتنزهات، أو الحدائق العامة، بما يشبه مسرح مفتوح، كل ذلك مقابل قروش قليلة يجمعها المرقّص من المتفرجين الذين يسعدون بمثل هكذا منظر.
من أصناف الحلويات يرصد الكاتب ما نعرفه باسم (الكعك) ويشير الى أنه تسمية عامة تشتمل على ضروب كثيرة من المعجّنات، القاسية منها والهشّة والطرية. والكعك الذي نحن بصدده هو الشائع المعروف، وهو نوع من الخبز يعمل من الدقيق والسكر والسمن، ويسوى مستديرا أو متطاولا أو رفيعا، وغير ذلك، ويجفف وقوامه هشّ بقساوة بسيطة. تاريخيا يذكر المؤلف ان الكعك عرف منذ زمن بعيد، وكانت الواح (جوديا السومرية) تنص على ما ترغب به الآلهة من القرابين والنذور ومنها الكعك، ومما قيل فيه: “فصّل فيه القاسمي في سياق حديثه عن بائع الكعك بدمشق في نهايات القرن التاسع عشر للميلاد فقال: الكعيكاتي هو بائع الكعك المعروف بدمشق بـ”الشرك” بضم الشين وفتح الراء، ويقال للذي لا يؤمن الا عند الحاجة: انك مثل بائع الكعك، لا تقول يا كريم الا عندما تصبح تحت الفرش”، ونداء بائعة الكعك في دمشق: (يا كريم). ويشرح المؤلف هذا النداء بقوله: “ثمة بائع يضع الفرش على رأسه وعليه الكعك وينادي “الله كريم” ويمدّ صوته، ومنهم من يتفنن باللفظ فيزيد أو ينقص مثاله: أن واحدا كأن يقول (يا كريم ويا حليم طازة سميد، بصوت ونغم خاص صباح كل يوم في طريقه الى الصالحية”.
منادي السينما
من الحرف اللطيفة والنادرة التي عرض لها المؤلف هي (منادي السينما) وكانت تمارس للدعاية للفيلم الذي تعرضه إحدى دور السينما في دمشق، وكان المنادي يقف امام المدخل ويصيح بأعلى صوته منبها المشاهدين الخارجين بعد انتهاء الفيلم (عودة فرانكشتين يوم الاثنين، لا حدا ينسى، عودة فرانكشتين). وفي بعض الأحيان كان منادي السينما يحمل (جرسا) صغيرا يرنّه لجلب الانتباه، ثم يبدأ يرفده بالنداءات، وقد يقول (لحق المناظر)، اي الحق فقد بدأت المناظر ولم يبدأ الفيلم بعد، والمناظر كانت شريطا وثائقيا مصورا كنشرة الأخبار التي نشاهدها في التلفزيون اليوم، وكانت تعرض قبل بدء الفيلم، تليها استراحة قصيرة، ثم العرض. ويسرد المؤلف جانبا من ذكرياته مع هذه الحرفة بقوله: “وأذكر أنني كنت أسمع مثل هذه النداءات أكثر ما اسمعها أمام سينما “الكوزموغراف” التي تأسست عام 1924 وهدمت في الخمسينات اثر تنظيم المنطقة، وكان موقعها في حي البحصة خلف فندق أمية بساحة المرجة، ولم تكن النداءات تقتصر على الدعاية للفيلم القادم، بل ان الجمهور كان يحيي صاحب هذه الصالة بالهتاف التالي: (الكوز كوز أي والله، ابو صياح ما شالله)، والكوز مختصرة من اسم الصالة، وابو صياح صاحبها”.
دائرة رسمية لليانصيب
من جملة المهن التي عرض لها المؤلف في كتابه الذي يضم معجما للمصطلحات في 30 صفحة، مهنة بيع أوراق اليانصيب، وكانت من المهن المتعيشة في دمشق، ويقوم صاحبها بحمل رزم منها تسمى (دفاتر) الى جانب نشرة بالأرقام الرابحة من السحب السابق، ويجول في شوارع وحارات المدينة، يبيع ورقه للسحب القادم، ويعرض النشرة السابقة على من يحمل ورقة منه، فان كانت رابحه أعطاه بقشيشا، وان كانت خاسرة مزّقها صاحبها وربما قذفها في وجهه وندب حظّه العاثر.
ويذكر العلاّف اليانصيب بدمشق في مطلع القرن 20 أيام الأعياد فيقول: “ثم هناك من يجمع شتى الخردة والدمى وينادي: يانصيب، نصيبك بالكيس، فيقبل الأولاد الى الكيس ويمدون ايديهم فيستخرج ورقة صغيرة مكتوب فيها ماأصابه من تلك الخردة المعروضة”. ونداءات باعة البانصيب في دمشق: (يا نصيب، اليوم السحب، بكرا السحب، فرنكك ربع، بوش ما في).
اليوسف أفندي
خصّ المؤلف فاكهة “اليوسف افندي” بمعلومات وافية، فيها بعض الطرافة والتوثيق، ومن ذلك قوله: المندرين أو اليوسفي، وعلى ألسنة الناس (اليوسف افندي) شجر مثمر مشهور من الفصيلة البرتقالية، وينطبق عليه ما ينطبق على البرتقال، وهو نتاج عملية تهجين له، وهناك ضرب يعرف في دمشق باسم (الكرمنتينا) ويكون خاليا من البذور. أما موطنه الأصلي فهو الصين ومنها نقل إلى أوروبا في القرن 17 عن طريق مرفأ طنجة في مراكش، ولم يكن يعرف فيها قبل هذا التاريخ، لذلك سمي بـ”برتقال طنجة”. واليوسفي سمّي بذلك نسبة إلى يوسف أفندي، وهو أرمني أرسله محمد علي باشا الكبير، حاكم مصر في بعثة إلى فرنسا ليتعلم الزراعة، فلما عاد جلب معه من ايطاليا الى مصر مقدارا من غراس هذا الشجر، فزرعه فيها فنسب اليه. وفي رواية أخرى أنه سمّي بذلك نسبة إلى يوسف افندي الأرمني الذي أرسله طوسون باشا الى فرنسا لتعلم الزراعة، فلما عاد الى مصر جلب معه من جزيرة مالطة هذا الغرس واستنبته فعرف به، وقيل غير ذلك كثير. ومن نداءات باعته في دمشق: (شو شايف حالو هالافندي، يا ملضمينا عوّامة، شغل طرابلس هالافندي، ياأفندي أكل اللوز”.
تحدث المؤلف عن العديد من النباتات المعمّرة ومنها (العرقسوس) وقال إنه نبات عشبي مخشوشب، معمّر، برّي طويل الجذور وعميقها، من الفصيلة القرنية والقبيلة الفراشية، عوده يسمى عود السوس، وجذره عرق السوس، والتسمية الاجنبية مأخوذة من عرق السوس. وقد استعمله الفراعنة لمعالجة آفات الكبد والأمعاء لتعديل مرارة العقاقير. كما ذكره الطبيب الاغريقي ثيوقراطيس عام 270 ق. م، وعرف العرب جذوره منذ قديم الزمان ونقلوه الى أوروبا والعالم، وينمو هذا النبات الجميل على شواطئ البحر الأبيض المتوسط وفي بادية بلاد الشام. حول العرقسوسي يذكر القاسمي: “هو بائع شراب نقيع عرق السوس، وهذه الحرفة تروج في زمن الصيف رواجا جيدا، لونه احمر مائل الى السواد، حلو الطعم، ولا يطيب الا بدخول الثلج عليه مع جزء قليل من “التقطيرة” وهي نوع من انواع الطيب يعمل في بلاد الشام مركب من عدة أجزاء”. أما الآن فقد قلّ باعة العرقسوس الجوالون الا في بعض الحفلات التي يراد أن تكون لها صبغة شعبية، فيؤتى به ليصب للضيوف. ويقول المؤلف: “واذكر أحد باعة العرقسوس كان ينادي في دمشق نداءات غريبة ولطيفة، فيقول بنغمة حلوة الميه فيجه والتلج معمل يا خال، قرّب علينا قرب، والحلاوة زايده، هذا اللي وصفه الدكتورلإبنه يا خال، قرب علينا قرب والحلاوة زايده”. ويزيد المؤلف في التوضيح حول نداء الباعة بقوله: “وكان وجه الدعاية الصحية في ذلك الإشارة الى نظافة مائه وجليده، لأن الدمشقيين قبل شيوع البرادات في البيوت كان لديهم معمل جليد في زقاق الصخر، ولكن أكثرهم كان يشتري الثلج الطبيعي الذي يأتي به الباعة من مغارات في جبال حلبون العالية، فيشتريه الناس ويأكلون معه الدّبس، ويسمون ذلك “سويقا” وهذا البائع نفسه كان ينادي أحيانا بقوله: تمر هندي سلطان الشراب”... والسّويق هذا هو بائع الثلج الممزوج بالدبس وكان الناس يطلقون عليه أحيانا اسم “الجلّيد” وكان يبيع بضاعته من الثلج على ظهر الدواب ضمن خرجين من القماش المعروف باسم “الجنفيص”.
مصلح بابور الكاز
في باب المهن يختم المؤلف حديثه حول مهنة نعتقد انها انقرضت تماما في المدن وهي مهنة مصلّح بابور الكاز، وعرفت فرنسا في منتصف القرن التاسع عشر خصائص زيت الكاز في إزالة البقع الدهنية من القماش، وبعد عام 1850 استعمل زيت الكاز في الإنارة. يصف المؤلف رحلة مصلح البابور بقوله: “وكان مصلح بابور الكاز يطوف أزقة دمشق وحاراتها مناديا: مصلح بوابير الكاز، وأحيانا يضيف إلى النداء، مصلح حنفيات”. كما عرض لمهن منفض السجاد، والمسحراتي، وصانع المخلالات، والعديد من المهن التي انقرضت في زمن العولمة، لكن ما يميز طريقة العرض أن المؤلف حرص على توثيق المعلومات تاريخيا وبالصور، والاعتماد على المصادر والمعاجم الانجليزية والفرنسية، كما أنه اعتمد على ذكرياته في هذا المجال ولقاءات توثيقية مع جملة من الباعة وممارسي المهن التي وردت في الكتاب.