موضوع شبة متكامل عن الخط العربى
الخط الكوفي.
Aly Farahat
اعتمد تطور الخط العربي في بداياته الكوفية على خط البسط بشكل أساسي، فتطور فيها تطورًا كبيرًا، ربما كان من أسبابه التقاؤه مع ما ألِفَهُ مَن حلّ بالكوفة من قبائل اليمن من تربيع في الخط المسند، والبراعة التي اشتهر بها أهل الحيرة والأنبار الذين هاجر بقيتهم إليها. وعلى الرغم من وجود نماذج سبقت إنشاء الكوفة تحمل سمات الخط الذي أُطلق عليه اسم الكوفي، فإن هذه التسمية سادت وأصبحت تُطلق على كل الخطوط التي تميل إلى التربيع والهندسة أينما كتبت، وأيًا كانت درجة تطورها أو اختلافها عن الخطوط الكوفية الأولى.
غير أن الكوفة عرفت نوعين آخرين إلى جانب الخط القاسي: نوع مخفف لين هو خط التحرير، ونوع يمكن اعتباره جمعًا بين النوعين السابقين هو خط المصاحف الذي اهتمت المصادر التاريخية بتناوله، وكان معتمدًا في كتابة المصاحف الكبرى التي تُوقف على المساجد. وكان من أبرز كُتَّابه الأوائل مالك بن دينار الوراق وخشنام البصري. أما أقدم فنان متميز في الخطوط الكوفية تذكره المصادر، فهو خالد بن أبي الهياج الذي اشتهر زمن خلافة علي بن أبي طالب، وحتى خلافة عمر بن عبدالعزيز. وقد كتب عددًا من المصاحف وكُتُبِ الأخبار والأشعار. وكان أول من خطَّ كتابة تزيينية على المساجد، فلقد خطّ على جدار القبلة في المسجد النبوي الشريف أربعًا وعشرين سورة من القرآن الكريم.
واستمر الخط الكوفي في التطور والانتشار، فأسهمت كل الحواضر العربية والإسلامية في الشرق الإسلامي ومغربه في الإضافة إليه، والارتقاء بجمالياته لقرون طويلة، فتعددت أنواعه وأشكاله التزيينية والزخرفية حتى جاوزت السبعين، منها الكوفي البسيط والمورّق والمضفَّر والمزهَّر والمربَّع والتذكاري والقيرواني والأندلسي والفاطمي والمملوكي والسلجوقي والنيسابوري، إلى آخر تلك الأنواع والتفرعات التي تتمتع بمميزات تشكيلية جمالية عالية ساعدت على تطورها القيم الجمالية الهيكلية الكامنة في الخط العربي وحروفه، بالإضافة إلى الطبيعة الفنية الزخرفية في الخط الكوفي، والتي تتيح للخطاط المبدع درجة عالية من الحرية في الابتكار والإبداع. ولم يحدّ من نموّ الخطوط الكوفية واطراد تطورها إلى جانب الخطوط اللينة إلا سيطرة العثمانيين على البلدان العربية، ونقلهم لخيرة مبدعيها إلى الآستانة، وإهمالهم للخطوط الكوفية مع تصاعد اهتمامهم بالخطوط الليِّنة، مما وضع الخطوط الكوفية في الظل لمئات من السنين.
تعود أصول الخطوط الموزونة إلى خط التقوير الذي كانت بداية ارتقائه الفني في الشام بعد تعريب الدواوين في عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، واختراع نوع من الورق عرف بالقرطاس الشامي. وتُنسب النقلة الأولى في هذا الارتقاء إلى قطبة المحرِّر، وهو ـ في الأغلب ـ أول من أطلق عليه لقب محرِّر. ابتدع قطبة استخدام قلم الجليل في الكتابة على قطع الطومار فصار يُسمى قلم الطومار أيضًا، واشتق منه ثلاثة أقلام أصغر منه حدد عروضها بالنسبة إليه، ليكتب بها على قطوعٍ مختلفة من القرطاس تتفق مع أهميتها الإدارية. وفي أوائل العصر العباسي، طوّر كل من الضحاك بن عجلان الشامي ثم إسحق بن حماد ما بدأه قطبة، فبلغ عدد الأقلام اثني عشر قلمًا، وأصبحت هناك مدرسة للإبداع الخطي انتهت إلى إبراهيم السجزي (أو الشجري) الذي استحدث قلمين أصغر من الطومار أطلق عليهما الثلثين والثلث (بالنسبة إلى الطومار)، وإلى أخيه الكاتب الشاعر يوسف لقوة الذي استخرج قلمًا من النصف الثقيل عُرف بقلم التوقيع طوّره الفضل بن سهل فيما بعد، وسماه القلم الرياسي، وهو يتفرع إلى بضعة أقلام مثل نصف الرياسي والمحقَّق والمنثور والوشي والرقاع والمكاتبات والنرجس والبياض. أما النقلة الأهم بين نُقْلة قطبة المحرر ونُقْلة ابن مقلة، فقد تمَّت على يد الأحْول المحرر وكان تلميذًا مبدعًا لإبراهيم السجزي، قام بترتيب الأقلام الثقال بدءًا من الطومار، ثم الثلثين والسجلات، فالعهود والمؤامرات ثم الأمانات والديباج، فالمدمج والمرصّع، ثم قلم النسّاخ. وينسب إليه اختراع خفيف النصف وخفيف الثلث، والمسلسل، وغبار الحلية، وخط المؤامرات، وخط القصص والحوائجي. وقد استخدمت المصادر التاريخية كلمة خط بدءًا من بعض الأنواع التي ابتكرها بدلاً من كلمة قلم التي كانت سائدة للدلالة على تسميات لقياسات مختلفة من الأقلام تتناسب استخداماتها وقطوع الورق.
وتنسب إلى قلم الطومار الذي حدّد عرضه بما يساوي أربعًا وعشرين شعرة من ذيل الحصان التركي، فكان عرض قلم الثلثين 16 شعرة والثلث 8 شعرات، وهكذا. ولم تكن أنواعًا بالمعنى المعروف ولكنهم استخرجوا منها الثقيل والخفيف، وأكسبوها من خلال ذائقتهم الفنية وتراكم جهودهم خصائص مختلفة ميّزت الخطوط الأصلية الموزونة التي برع فيها عدد من الخطاطين الأفذاذ، كان من أبرزهم طبطب المحرر رأس المدرسة المصرية، وإسحاق بن إبراهيم البربري أستاذ ابن مقلة ومؤلف تحفة الوامق أول كتاب أمكن تسجيله في الخط العربي.
الخط المنسوب.
كانت الخطوط الموزونة قد وصلت إلى درجة من التطور، فأصبح لها نسب قياسية خاصة، وبلغ عدد أقلامها أربعة وعشرين قلمًا عندما ظهر الخطاطان العبقريان الوزير أبو علي محمد بن مُقْلة ثم أخوه أبوعبدالله الحسن بن مقلة اللذان نقلا الخط العربي نقلة فنية نوعية. لم تتفق المصادر التاريخية حول من كان له الدور الأكبر فيها. وقد كانا على درجة عالية من الدراية والتعمق والبراعة والتجويد، فتوصل أحدهما ـ أو كلاهما ـ في بدايات القرن الرابع الهجري إلى تأليف ستة أنواع من الخطوط هي: الثلث والريحان والتوقيع والمحقَّق والبديع والرقاع . وهنْدس أحدهما مقاييسها وأبعادها، ووضع معايير لضبطها والوصول بها إلى صيغ جمالية محكمة، معتمدًا في ذلك على العلاقة بين النقطة والدائرة والخط.
فجعل حرف الألف الذي حدد طوله بعدد من النقاط قطرًا لدائرة ونسب إليه الحروف جميعًا، فكانت هذه انطلاقة الخط المنسوب الذي أبدع فيه عدد من الخطاطين طوال قرن من الزمن ليصل إلى محمد بن السمسماني ومحمد بن أسد الكاتب البزاز البغدادي الذي نقل كتابًا عن ابن مقلة، وكان هذان أستاذين تتلمذ عليهما الخطاط البغدادي المبدع أبو الحسن علي بن هلال، ابن البواب. درس ابن البواب خطوط ابن مقلة دراسةً معمقة مدققة استطاع بعدها أن يطور أسلوبه والقواعد التي وضعها للخط المنسوب منتقلاً به إلى مرحلة أكثر رقيًا وجمالاً عبر اصطفائه لأساليب تجمعها خصائص جمالية مشتركة؛ نقّحها وحوّلها إلى طرق سار عليها فن الخط العربي قرونًا ثلاثة تالية، لتنتهي إلى زينب بنت أحمد الإبري البغدادي الملقبة بشُهدة، التي يقال: إن ياقوت المستعصمي تتلمذ عليها، ثم الموسيقي الشهير الخطاط صفي الدين عبدالمؤمن الأرموي أستاذ أبي المجد جمال الدين ياقوت بن عبد الله المستعصمي. دقق ياقوت المستعصمي خطوط ابن مقلة، وخطوط ابن البواب بشكل خاص، فوجد أن القواعد التي أوصلا الخط المنسوب إليها متينة ومتماسكة من حيث مقاييسها وأبعادها ومعاييرها الجمالية الهيكلية، ولكنها تحتاج إلى أسلوب أرقى في الأداء يضيف إلى جمال هيكلها ونسبها جمالاً في تفاصيل حروفها وتناغم أجزائها. فركز جهوده في هذا الاتجاه، وتوصل إلى اختراع طريقة غير مسبوقة في بري القلم؛ فجعل شحمه أقل رهافة، وزاد من تحريف قَطّته مما شكل نقلة جمالية كبرى في تجويد الأقلام الستة المنسوبة جميعًا، سرعان ما أعطت ثمارها فانتشرت في مختلف المراكز الثقافية المنافسة لبغداد التي فقدت ثقلها في توجيه مسيرة الخط العربي بعد سقوط الدولة العباسية ووفاة ياقوت.
خط النسخ
قد شهد تطورًا كبيرًا في الشام منذ أواخر القرن الخامس الهجري، وحظي بنصيب وافر من التجويد مع خط الطومار ومشتقاته. ونافست مصر العراق في الاهتمام بالخط العربي منذ العصر الفاطمي؛ فطورت أنواعًا جديدة من الكوفي، وواكبت مسيرة الخط المنسوب فيها مسيرته في العراق، وسابقتها في تجويده، وتطور تدريسه فيها حتى أصبح له معلمون متخصصون متفرغون لتعليمه، يعملون بناء على أسس محددة يمكن أن نرى مثالاً لها في كتاب العناية الربانية في الطريقة الشعبانية لزين الدين شعبان بن محمد الآثاري. وقد أدى هذا إلى تطور كبير في خطي الثلث والثلثين. وفي الوقت نفسه، ظهر وتطور في فارس خط التعليق بعد أن حلَّت الحروف العربية محل الحروف الفهلوية في كتابة اللغة الفارسية . وربما كان هذا الخط تطورًا عن خطي التوقيع والرقاع تعود بداياته الأولى إلى أوائل القرن الرابع الهجري. وقد اكتسب خصائصه المعروفة في القرن السابع الهجري، ليقوم خطاط مبدع في القرن التاسع الهجري هو مير علي التبريزي بابتداع وتجويد خط متطور عنه سمي نسخ التعليق أو نستعليق،الخط الفارسي.
المدرسة العثمانية..
يمكن القول إن تطور خط النسخ في الشام، والثلث والثلثين في مصر شكّلا منهلاً نهل منه الخطاطون الأتراك وأساسًا اعتمدوا عليه ليحدثوا نقلة مهمة في تجويد بعض أنواع الخط المنسوب. وقد أدى استقدام السلاطين لخيرة خطاطي العراق والشام ومصر، ضمن من استقدموهم من فنانين وصنّاع إلى الآستانة، دورًا كبيرًا في النهضة الخطية التي شهدتها الدولة العثمانية. وكان الأتراك يستخدمون خط التعليق الفارسي في كتابة لغتهم التي كانت قد تحولت أيضًا إلى الحروف العربية، بالإضافة إلى الخطوط المنسوبة التي كانت لها استخدامات مختلفة. وقد برز في أواخر القرن التاسع خطاطان اتبعا طريقة عبدالله الصيرفي البغدادي كان لهما دور كبير في تطور تجويد الخط العربي.
أولهما الشيخ حمدالله الأماسي الذي جمع خطوط ياقوت المحفوظة في الخزانة العثمانية، فدرسها، وانتقى من حروفها أجمل الأشكال والأساليب، لتكون هاديًا ودليلاً له في تطويره للأداء الجمالي للخطوط المنسوبة وثانيهما الخطاط أحمد القره حصاري الذي برع في التراكيب والتشكيلات الخطية. وقد أدى التنافس بينهما إلى توسيع دائرة المجودين لتنتهي في أواخر القرن الحادي عشر الهجري إلى الحافظ عثمان بن علي الخطاط المجود الشهير صاحب المصاحف الذي استقرت الأقلام الستة بطريقته. ثم أتى الخطاط المبدع مصطفى راقم في أواخر القرن الثاني عشر الهجري ليضع اللمسات الأخيرة على طريقة تجويد جليّ الثلث التي لا تزال متبعة حتى الآن. وقام الخطاط سامي أفندي بتطوير الأرقام وعلامات التشكيل وإشارات الحروف المهملة حتى بلغت شكلها المعروف اليوم. وقد تسابق الخطاطون في تراكيب خط الثلث وجليّه مما أدى إلى تطور جمالي كبير فيها كان من نتيجته إجراء بعض التعديلات في مقاييس بعض الحروف بما يخدم التشكيل الخطي، وإحداث علاقات من التناغم بين غلظ القلم ورقة التشكيل وإشارات الحروف المهملة. وانتهى تجويد الثلث والنسخ والرقاع إلى فرعين على درجة عالية من الجمال يقف على رأس أولهما الخطاط قاضي العسكر مصطفى عزت، ويقف على رأس الثاني الخطاط محمد شوقي.
يمتاز بالرقة والرشاقة والتناغم الجميل بين الرقة والغلظ في كتابة حروفه ومدّاته، ووضع له نسبًا خاصة.